مدخـل
ينعقد المؤتمر الوطني السابع لحزب العدالة والتنمية ليؤكد من جديد وفاء الحزب لتوجهه الديمقراطي، واطراد عادته وسلوكه السياسي في احترام دورية استحقاقاته التنظيمية، وكذا تفعيلا للدستور الذي يلزم كافة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمدنيين باحترام قواعد الحكامة الجيدة في تدبير الشأن العام.
1. محطة تنظيمية عادية واستحقاق سياسي استثنائي
يمضي حزبنا بحرصه على تنظيم المؤتمر في الوقت المحدد له. بخطى واثقة في تثبيت مكتسب سلاسة تنظيم المحطات التنظيمية، مغنيا بذلك رصيد الممارسة الديمقراطية التي ترسخت داخل هياكله ومؤسساته، ومسهما في تقديم نموذج متقدم في الثقافة والممارسة الديمقراطية الحزبية في المغرب.
وإذا كان المؤتمر الوطني السابع تبعا لذلك يعتبر مؤتمرا عاديا، إلا أنه ينعقد في سياق سياسي غير عادي بالنظر إلى ما عرفه محيطنا الإقليمي من تغيرات وما طرأ على بلادنا من تحولات مما يجعل منه محطة سياسية بامتياز.
فالمؤتمر الوطني السابع جاء في سياق حافل بمتغيرات وازنة وتحديات جديدة متجددة، متغيرات تطرح أسئلة كبرى على الحزب، خاصة مع التغير الجوهري في موقعه بانتقاله من المعارضة إلى قيادة العمل الحكومي. مما يفرض إعادة النظر في الرؤية السياسية التي كانت ناظمة للمرحلة السابقة، بناء على تقييم أدائه ونضاله السياسي، ورصد عناصر القوة قصد تثمينها وتطويرها، ورصد مكامن الخلل والقصور لتجاوزها من أجل مواصلة العمل على خط النضال والبناء الديمقراطيين خدمة للمجتمع وإسهاما في الإصلاح وتحصينه من آفات التحكم والفساد والاستبداد وما يفضيان إليه من خراب للإنسان والعمران.
وحزب العدالة والتنمية عازم على المضي في مسار الإصلاح بقوة وعزيمة وجدية، عملا والتزاما بقيم الأمانة والنزاهة والفاعلية، وإسهاما منه في استرجاع المصداقية والثقة في السياسة ومؤسسات العمل السياسي، بعد عقود سادت فيها ممارسات تحكمية واستبدادية وتمييعية للعمل السياسي أدت إلى تبخيس العمل السياسي وإضعاف الثقة فيه وفي مؤسساته الحزبية والمنتخبة .
وهو عازم أيضا على الانخراط في دعم مشاريع الإصلاح، ودعم كافة السياسات والقرارات التي تسعى إلى تعزيز المكتسبات وتوسيعها، وإلى ترسيخ المسار الديمقراطي وتعزيز الحريات الفردية والجماعية في نطاق دولة الحق والقانون، وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للبلاد مع التوزيع العادل لثمار النمو، وتفكيك منظومة الريع بجميع أشكاله وألوانه، ضمانا للاستقرار السياسي والأمن المدني والسلم الاجتماعي، وللتقدم بالمغرب إلى مصاف الدول التي ينعم فيها المواطنون والمواطنات بحقوقهم الأساسية وبكرامتهم الإنسانية.
2. أطروحة سياسية جديدة من أجل مرحلة سياسية جديدة
وسيرا على سنة المؤتمر الوطني السادس، والذي تم خلاله إنتاج أطروحة سياسية هي “أطروحة النضال الديمقراطي”، بما هي نظرية للعمل كانت مؤطرة للمرحلة السابقة، حددت تصور الحزب آنذاك للمدخل الأساس للإصلاح والأولويات الكبرى لتلك المرحلة، إضافة إلى تحديد التموقع السياسي والاجتماعي للحزب.
وبما أن الأطروحة، هي جوابنا الحزبي الجماعي المرحلي على أسئلة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والذي يمثل الحد الأدنى اللازم من الفهم المشترك للمرحلة ويقدم التوجهات والعناوين الكبرى التي ستكون ناظمة لعملنا السياسي باعتبارنا تنظيما سياسيا وتيارا مجتمعيا.
وبالنظر إلى مجموعة التحولات التي طرأت على بلادنا ومحيطنا، وكون كثير من الأسئلة والتحديات قد تغيرت كلا أو جزءا، كما أن كثيرا من أجوبة الحزب عليها خلال المرحلة السابقة قد استنفذت أغراضها إما كليا أو جزئيا.
فقد صار من اللازم إغناء رؤيتنا السياسية بمضامين ومعطيات أخرى يقتضيها الموقع الجديد للحزب، وصار من اللازم إنتاج أطروحة جديدة تأخذ كل ذلك بعين الاعتبار.
غير أن هذا لا يعني أن كل الأهداف التي وضعتها أطروحة المؤتمر الوطني السادس قد تحققت، أو أن عددا من العناصر المعتمدة في قراءة الواقع السياسي لم تعد صالحة للاعتماد، بل يعني الحاجة إلى إعادة بنائها ضمن منظومة تأطيرية جديدة، وضمن عنوان جديد وأولويات سياسية جديدة تتناسب مع التحولات الطارئة على وضعنا وفي العلاقة بمن حولنا، أي أن يعاد إدماجها ضمن “أطروحة جديدة “.
3. وفاء متوصل للمنهج وصمود متواصل على الوفاء لخط الإصلاح
إن حزب العدالة والتنمية وهو يعيد بناء أطروحته يظل وفيا لمنهجه العام القائم على المشاركة السياسية الفاعلة، والإصرار على نهج الإصلاح من خلال المؤسسات، وعلى الثقة في المستقبل والاقتناع بأن الشعب من خلال تراكم وعيه بحقوقه وواجباته، واستعادة ثقته في العمل السياسي، قادر على الإسهام في إنجاز الإصلاح، كلما رأى من الطبقة السياسية استقامة ورشدا، وترجيحا للمصلحة العامة على المصلحة الشخصية أو الحزبية، ومن ثم لا مجال للاستسلام لعوامل التيئيس والإحباط مهما قَوِيَت وتعددت.
و يؤكد الحزب على أهمية التحلي بالإرادة والعزيمة بما هما شرطان يمكنان من الانتصار على كل عوامل الإحباط والتيئيس، وعلى قوى النكوص والفساد المضادة للإصلاح، وهو ما يقتضي جاهزية متواصلة وصمودا على خط الإصلاح إسهاما في إقامة مجتمع مغربي أصيل ومنفتح ومتحضر ينعم بالأمن والديمقراطية والتنمية والعدالة.
وكما كان حزبنا مؤمنا بأن التغيير آت، وأن الإصلاح المأمول قادم مهما تعاظمت عوامل النكوص والتراجع، وكما كنا موقنين ومتمسكين بنهج التدافع السلمي القائم على التدرج والتراكم، ضدا على خيارات المقاطعة السلبية والعدمية والانتظارية غير المنتجة بل المكرسة لواقع الفساد والاختلال والممددة لعمره، ها هي اليوم متغيرات الربيع الديمقراطي الذي هب على المنطقة العربية تؤكد نجاعة منهجنا وصوابه، وها نحن اليوم نجدد العهد على الاستمرار في نفس الدرب اعتدالا وصبرا ثم تقدما مستمرا، إن شاء الله، في معركة بناء الإنسان والوطن.
I. المؤتمر الوطني السابع في سياق متغيرات الوضع الدولي والعربي
1. السياق الدولي وأبرز التحولات الجارية
يكشف تحليل معطيات الوضع الدولي خلال السنوات الأخيرة أن العالم عاش ويعيش على إيقاع تفاعلات عميقة وتغيرات بنيوية، ويمكن رصد أهمها فيما يلي:
1-1. أزمة مالية واقتصادية بنيوية عميقة ومكلفة
ارتبطت هذه الأزمة بداية بالأزمة المالية المرتبطة بتوسيع المتاجرة بالديون والتي سرعان ما تحولت إلى أزمة اقتصادية عميقة ترهن الاقتصاد العالمي لسنوات قادمة. وقد أدت هذه الأزمة أيضا إلى ارتباك كبير في الرؤى والتوقعات التي ضعف مداها، وقلت مصداقيتها وصدقيتها.
وهكذا دخلت أغلب الدول والمنظمات والشركات إلى منطقة ضباب كثيف يربك الأداء العام ويؤثر في مستوى النمو ويحد من الاستثمار. كما أدت هذه الأزمة بالعديد من الدول إلى اعتماد سياسات مكلفة اجتماعيا مما قد يفاقم من مدى الأزمة وعمقها.
وإجمالا يمكن الجزم بأن الأزمة الحالية هي أزمة عميقة وبنيوية تسائل بقوة النظام العالمي ونموذجه التنموي والاقتصادي المهيمن على الاقتصاد العالمي، كما أنها تضع على عاتق الحزب مسؤولية الإسهام من موقعه الجديد في تطوير نموذج اقتصادي متوازن ومعتدل ومستدام.
1-2. نظام عالمي متعدد الأقطاب
لم يكن النظام العالمي منذ عقود أقرب إلى هذا المستوى من تعددية الفاعلين الناتجة عن تنوعهم وقوتهم بما مكن من تفرق وتنوع وتعدد مراكز صنع القرار الدولي.
ويمكن الإشارة، على سبيل المثال، في هذا السياق إلى تطور عدد المساهمين في فضاء التشاور الدولي الذي انتقل من ثمانية دول فيما عرف بـ ”G8” إلى عشرين دولة فيما يعرف الآن بـ ”G20”، وهو إطار غير رسمي للتشاور في القضايا الدولية، وهو بذلك الفضاء الذي تهيأ فيه كثير من التوجهات والقرارات الدولية ذات الأهمية والأثر الكبيرين، ويكفي للتدليل على ذلك أن نعلم أنه يمثل 85 % من التجارة العالمية، و90 % من الناتج العالمي الخام، وثلثي سكان العالم. كما يمكن أيضا في هذا السياق الإشارة إلى تطور وتنوع ونمو عدد من فضاءات التشاور الإقليمي.
كما أن ما يسمى بمجموعة “البريكس” مرشحة للقيام بأدوار أساسية في العقدين القادمين – الصين روسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا- واحتمال إضافة المكسيك لهذه الدول التي حققت معدلات نمو كبرى وهي تنسق مواقفها داخل المنظمات الدولية، كما لا ينبغي أن ننسى ما أصبح لتركيا من أدوار أساسية في منطقة الشرق الأوسط والقارة الآسيوية.
إن ذلك يعني أننا اليوم أمام تحول تدريجي نحو وضع دولي جديد يتميز أكثر فأكثر بتعقد وتنوع مسارات اتخاذ القرار على المستوى الدولي وتعدد مراكز النفوذ، وهو ما يقتضي الانتباه إلى الآثار المتعدية للسياسات الوطنية في مناخ دولي شديد الحراك ولا يكاد يرسو على حال.
1-3. سياق دولي ضاغط من أجل عولمة قيم الديمقراطية
لم يعد متوقعا اليوم في السياق الدولي القبول بدول تنعدم فيها الديمقراطية والحريات الأساسية الفردية والجماعية، وقد أصبح هذا المعطى معيارا أساسيا للتأثير في السياسات الدولية، كما صارت الدول التي لا تحترم فيها الحريات تعاني في سياق عالمي ضاغط في اتجاه عولمة قيم الديمقراطية والحريات باعتبارها قيما إنسانية محكمة وحاكمة.
1-4. تلاؤم أكبر مع المعايير الديمقراطية الكونية
وبالنسبة للمغرب، فإن نيله وضع الشريك من أجل الديمقراطية في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا ووضعَه المتقدم مع الاتحاد الأوروبي وكونه معنيا بسياسة الجوار الأوروبي، كل ذلك يفرض تلاؤما أكبر مع المعايير الديمقراطية الدولية، كما يفتح فرصا كبيرة على المغرب كي يكون فاعلا فيها وأن يحسن الاستفادة منها في تعزيز مسار بنائه الديمقراطي واستقراره السياسي ونمائه الاقتصادي وتماسكه الاجتماعي.
1-5. تواصل علاقات القوة والهيمنة في العلاقات الدولية وداخل المنظمات الأممية
غير أنه وبقدر تقدم مطلب الدمقرطة القطرية، فإن هذا المطلب يظل ضعيفا إن لم نقل غائبا في المؤسسات الأممية، وهو ما يجعل معركة ترسيخ الديمقراطية والحريات في المؤسسات والعلاقات الدولية مهمة استراتيجية وتاريخية، ينبغي أن تنتهي بإعمال مقتضيات الحكامة الجيدة في تدبير المشترك البشري وفقا لقواعد العدل والسلم والمساواة بين الأمم والجماعات، إذ لم يعد من المقبول أن نستغرب غياب الديمقراطية في بلد ما، ونستسيغ غيابها في مؤسسات وقرارت تؤثر وربما ترهن بلدانا بأسرها إن لم نقل البشرية جمعاء، أو أن يستدعى خطاب الديمقراطية فقط حين يخدم مصالح بعض الدول ويتم التواطؤ على تغييب الديمقراطية وحقوق الإنسان حين تستدعي مصالحها ذلك، كما شاهدنا ذلك لفترة طويلة قبل الربيع الديمقراطي حين تمت مساندة عدد من الأوضاع غير الديمقراطية وتم التواطؤ معها ضد شعوب المنطقة من خلال مؤامرة الصمت أو إضفاء الشرعية على حالات الانقلاب على انتخابات ديمقراطية.
ونرى أن التقدم الذي تحرزه الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية اليوم في كثير من الدول يبقى ناقصا إن لم يكن من آثاره إسهامها في تعميم وترسيخ قيم الحرية والعدل والديمقراطية قطريا ودوليا.
2. السياق العربي.. ثورات تتناسل وشعوب تريد
2-1. ضمن هذا السياق الدولي المأزوم اقتصاديا وسياسيا، اندلعت -وبدون سابق إنذار- احتجاجات شعبية في مدينة سيدي بوزيد بتونس أخذت صبغة اجتماعية في البداية، ثم سرعان ما اكتست طابعها السياسي، حيث خرج الشعب التونسي في ثورة شعبية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة العربية، فكانت أربعة أسابيع من الاحتجاجات المتواصلة كافية لإسقاط نظام الجنرال بنعلي. ثم ما لبثت الثورة أن انتقلت إلى مصر لتطيح هي أيضا بواحد من أعتى الأنظمة في المنطقة.
ولأن الربيع الديمقراطي وأشواق الحرية والكرامة لا حدود لها في أوطان عانت طويلا من القهر والظلم، فقد انتقلت مفاعيل الثورتين إلى اليمن والبحرين وليبيا وسوريا.
2-2. شكل النجاح السريع للثورتين التونسية والمصرية حافزا وأملا كبيرين في العالمين العربي والإسلامي، بل إنهما قد أصبحتا تجربتين ملهمتين في العالم كله.
غير أنه إذا كانت الثورة التونسية قد حققت خطوات جبارة في مسار إتمام استحقاقات الثورة بانتخاب جمعية تأسيسية وحكومة انتقالية ائتلافية، وتتهيأ فيها البلاد للتحول من المرحلة الانتقالية إلى المرحلة العادية، فإن ذلك لا يخلو من صعوبات ومخاطر النكوص والارتداد والالتفاف على الثورة.
وفي مصر التي تمكنت من خلال ثورة ميدان التحرير أن تسقط رأس النظام السابق فإنها لا تزال تعيش مخاض تحقيق كافة استحقاقات الثورة حيث لا يزال النظام السابق وفلوله “يقاتلان ” من أجل البقاء، ولا تزال مراكز مقاومة التغيير وعناصر الثورة المضادة تسعى إلى إعادة تنظيم نفسها، بل إنها استطاعت أن تستغل انقسام معسكر الثورة وتناقضاته ومخاوف مكوناته بعضها من بعض من أجل أن تحقق تقدما انتخابيا لافتا في انتخابات الرئاسة، لولا أن معسكر الثورة قد استدرك خلافاته ووحد قواه من أجل أن ينتصر خيار الثورة في معركة انتخابات الرئاسة التي جاءت بأول رئيس منتخب في تاريخ مصر. لكن عناصر النظام القديم وأنصار الثورة المضادة لا يزالون يسعون رغم ذلك لتعزيز مواقع قديمة أو استرجاع مواقع مفقودة.
ومن الأكيد أن مسار الربيع الديمقراطي سيكون في مجمله محكوما بالصراع بين معسكر الثورة وبين فلول النظام السابق بتعبيراتها الظاهرة ومقاوماتها الخفية وموقع الجيش في الصراع بين الطرفين.
2–3. ومن النتائج المباشرة للثورتين السلميتين في كل من تونس ومصر، أنهما قد حركتا كوامن الشعوب العربية التي كانت ترزح تحت الاستبداد، وأعادت لها الثقة في إمكاناتها الذاتية وقدرتها على التأثير والتغيير.
فقد حفزتا الشعب الليبي إلى الدخول في ثورة سلمية ضد استبداد نظام القذافي، وقد واجهها هذا الأخير بقمع دموي رهيب أجج عاصفة ثورية سرعان ما وجدت نفسها مجبرة للدفاع عن الشعب بالسلاح، فلجأت الثورة التي كانت في بدايتها سلمية إلى الدخول في مواجهات عسكرية طالت ولم تتوقف إلا بإنهاء اثنين وأربعين سنة من الحكم الفردي للقذافي.
2-4. ومن نتائج الثورتين أيضا اندلاع ثورة شعبية سلمية في اليمن كادت أن تتحول إلى مواجهة مسلحة شاملة بسبب سعي النظام إلى وأدها من خلال استهداف نشطائها من خلال ميليشياته المسلحة لولا حكمة المعارضة اليمنية وإصرارها على الطابع السلمي، حيث استمرت جماهير الشعب اليمني في إصرار كبير على الاعتصام في الميادين والساحات والتظاهر بشكل سلمي مطالبة الرئيس اليمني بالرحيل، في حين أظهر هذا الأخير قدرة كبيرة على المناورة والإصرار على البقاء في السلطة واستدامة عمر النظام، لكن الثورة اليمنية مع كل ذلك أجبرت الرئيس على الرحيل في إطار تسوية سياسية ضغط لأجل إتمامها فاعلون دوليون وإقليميون.
2-5. وفي سوريا ألهمت الثورات الشعبية الشعب السوري، فقام منتفضا ضد عقود من الحكم الاستبدادي الدموي الطائفي بطريقة سلمية ووجهت بشراسة منقطعة النظير من طرف النظام وقواته وميليشياته المعروفة ب”الشبيحة”، ومن خلال دعم إقليمي لاعتبارات طائفية أحيانا، هذا إضافة إلى تغطية بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وبالأخص روسيا والصين.
واليوم مازالت الثورة مستمرة في سوريا، حيث يقف السوريون صامدين في معركتهم من أجل الحرية والكرامة في مواجهة يومية مع آلة القتل الرهيبة التي يديرها نظام بشار الأسد، الذي فقد شرعيته داخليا وخارجيا. وللأسف مازالت الحسابات الجيوسياسية والإستراتيجية، وكذا موازين القوى الإقليمية والدولية، إضافة إلى تأرجح واختلاف قوى الثورة، تؤجل فرحة شعب سوريا بإنهاء عهود من القهر والظلم.
2-6. وفي مناطق أخرى كان تأثير الربيع الديمقراطي في العالم العربي تأثيرا متباينا، وذلك باختلاف السياقات السياسية والتوازنات الطائفية. ففي الجزائر التي عاشت أكثر من عقد من الزمن على إيقاع الحرب الأهلية ونتائجها المدمرة على مستوى الاستقرار السياسي والسلم الأهلي، كان تأثير الربيع الديمقراطي محدودا، وظلت المعادلة السياسية المحكومة بالدور المركزي للجيش قائمة، حيث بقي التغيير الديمقراطي محدودا ولم يمكن من إطلاق دورة ديمقراطية جديدة متناسبة مع التحولات الجارية في المنطقة.
ونفس الشيء في البحرين حيث يتداخل الحراك الشعبي ويتقاطع مع معادلات تنازع مناطق النفوذ والهيمنة في المنطقة.
2-7. وخلاصة القول إن العالم العربي في الآونة الأخيرة قد عرف تغيرات جوهرية أدت إلى خلخلة أنظمة الاستبداد وبروز التطلعات الشعبية نحو تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة.
ولئن كانت الشعوب العربية قد قطعت أشواطا طويلة نحو تحقيق حلمها الديمقراطي فإن التحقيق الفعلي والكامل لذلك الحلم لا يزال يواجه صعابا وعقبات ومخاطر ترتبط بسعي فلول الأنظمة الاستبدادية السابقة لتنظيم نفسها وإعادة الكرة من أجل احتواء نتائج المد الديمقراطي في المنطقة وحماية المصالح ومناطق النفوذ.
كما أن عددا من مراكز القرار الغربي بعد مرور الصدمة وبعد أخذها من الوقت ما يكفي لفهم أسباب وأبعاد المسارات المتوقعة للحراك الديمقراطي التي عرفتها المنطقة، تعمل على إعادة تقييم مواقفها وسياساتها والتأقلم مع المعطيات الجديدة بما يؤدي إلى الحفاظ على مصالحها والتقليل من آثار تلك التحولات عليها.
3. في فهم أسباب الثورات الديمقراطية:
إن الربيع الديمقراطي بما هو فرصة تاريخية وحدث استثنائي في تاريخ شعوب منطقتنا، وبما هو نتاج لشروط سياسية واجتماعية واقتصادية بنيوية، لن تكون له فائدة إن لم نتمكن من أن نجعل منه، نحن المغاربة، لحظة تذكر واعتبار، لحظة لاستخلاص الدروس، ومحطة لإعمال السياسات والإجراءات المناسبة للقطع مع تلك الشروط التي أدت إلى كل هذه الانهيارات السريعة لأنظمة كانت ترى نفسها، ويراها حلفاؤها أيضا أنظمة نموذجية تضمن الاستقرار وتحفظ مصالح الحلفاء.
3-1. سيادة التسلط كأسلوب للحكم
من خلال تأمل حالات الربيع الديمقراطي في العالم العربي يتضح أن التسلط بما هو أسلوب في الحكم تبنته كل الأنظمة المنهارة، وإن اختلفت تفاصيله وحيثياته، قد عجز عن تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والنماء الاقتصادي.
لقد سعت الأنظمة المنهارة إلى تعزيز التسلط باعتباره نموذجا للنجاعة السياسية في مقابل الخطر الإسلامي، وزرع وهم إمكان الجمع بين التحكم السياسي وبين التنمية الاقتصادية، وأنه من الممكن تحقيق التنمية دون المرور ببوابة الديمقراطية، وهو وهم سرعان ما تبدد، لأن الاستبداد وما يرتبط به من سوء حكامة وريع اقتصادي يختزن دوما بين ثناياه جراثيم الفساد التي تعصف في النهاية بالاستقرار ومن ثم بالتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
3-2. مأزق نموذج التنمية بدون ديمقراطية
تعتبر الحالة التونسية، التي طالما اعتمدت دليلا شاهدا وملموسا للنجاعة الاقتصادية برفع منسوب النمو والنجاعة السياسية في محاصرة وتصفية المعارضة الإسلامية، دليلا صارخا على سقوط هذا النموذج.
فالوقائع المتلاحقة قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن مقتل هذا النموذج – رغم الانجازات الظاهرية المتمثلة في جلب الاستثمارات الأجنبية والسياحة الخارجية – كان هو غياب مؤسسات تتوفر على الشرعية المطلوبة لتدبير الشأن العام، ومراقبة مسالك صرف الأموال العمومية، وهو ما شكل مدخلا كبيرا للفساد السياسي والمالي، والذي تطور بشكل سرطاني ليتحول في كثير من الحالات، إلى مافيات منظمة لنهب المال العام وتكديس الثروة غير المشروعة عن طريق “الجاه المفيد للمال” في غياب تام لآليات المراقبة والمحاسبة الديمقراطية.
وقد أدى هذا النموذج إلى تجميع السلطة والثروة في يد واحدة أغلقت جميع منافذ التعبير والتنظيم السياسي، وأفسحت المجال للعبث بخيرات الأوطان ومستقبلها، لفئات انتهازية ومصلحية تسربت إلى دوائر النفوذ السياسي والمالي واستقوت بها، لتعيث فسادا في البلاد والعباد، فكانت تلك الصور البشعة من الانتهاكات الجسيمة للحقوق الأساسية للمواطنين، ظلما وسجنا وقتلا وتهجيرا.
وكان من نتائج هذا التوجه الذي اعتمدته الأنظمة المنهارة التي بنت شرعية وجودها تارة على النجاعة الاقتصادية، وتارة أخرى على النجاعة في التصدي للخطر الإسلامي وتهديداته للاستقرار وللمصالح الغربية أو عليهما معا، أن راكمت تلك الأنظمة التسلطية بمباركة غربية رصيدا فظيعا من الانتهاكات وكبت الحريات ومنع الشعب من حقه في التنظيم السياسي وتزوير الانتخابات وتضييق الخناق على المعارضة السياسية والحركات الجماهيرية، مما أسهم في إضعاف جميع المؤسسات الوسيطة التي تنقل مطالب المجتمع إلى مؤسسات الدولة، فكان من الضروري أن يولد الضغط الانفجار الذي لم يكن أحد يتوقع توقيته وطريقته، خاصّةً في ظل أنظمة قمعية وبوليسية تحصي على المواطنين أنفاسهم .. فتهيأت الشروط لتراكم الاحتقانات السياسية والاجتماعية، ومهدت لاندلاع ثورات اختلفت حدتها ودمويتها بقدر حجم الدمار الذي أحدثته سياسات الظلم والتحكم في النخب والبنيات السياسية والمجتمعية.
وهكذا ثارت الشعوب التي تريد الكرامة والحرية، واستجابت لوعيها الفطري، في تجاوزٍ كبيرٍ للنخبة السياسية التي كان من المفروض أن تكون هي صانعة التغيير الديمقراطي، لكنها للأسف كانت نخبةً مكبلة بقمع النظام، وبثقل ثقافة سياسية محافظة، راكمتها خلال عقود من الاستبداد.
ولا غرابة في هذا السياق أن تكون الثورة الأكثر دموية هي الثورة الليبية، حيث أباد العقيد كل بنيات الدولة والمجتمع من أجل التمكين لسلطته الفردية بدون رقيب.
وقد تقاطعت هذه السياسات لسنوات طوال مع الإستراتيجيات الأمنية الغربية المبنية على حفظ المصالح من خلال دعم الأنظمة الاستبدادية الضامنة لمصالحها.
ويمكن اعتبار النموذج المصري أبرز شاهد في هذا السياق، حيث ظل الرئيس حسني مبارك يحكم البلاد لمدة ثلاثين سنة بيد من حديد، معتمدا على أسلوب في الحكم يقوم على إرضاء الغرب وخدمة مصالحه الإستراتيجية بالدرجة الأولى وعلى رأس هذه المصالح حماية أمن إسرائيل والاستماتة في تنفيذ بنود “كامب ديفيد”، وعدم التردد في تزويد الكيان الصهيوني بالطاقة ولو ضدا على أحكام القضاء المصري في الموضوع.
3-3. الشباب والثورة الرقمية في خدمة الثورة الشعبية
لا يمكن الحديث عن انهيار أنظمة الظلم والقهر، دون الحديث عن الدور البارز الذي اضطلع به الشباب في الحراك العربي حيث سجلنا خلال الآونة الأخيرة تحولا نوعيا نقل الشباب من دور المراقب أو اللامبالي بما يدور في الساحة السياسية إلى رقم أساسي في عملية التدافع والتغيير السياسيين.
وقد وجد الشباب في التكنولوجيا الرقمية ووسائل الاتصال والأنترنيت وشبكات النقاش الاجتماعي ملاذا آمنا، وفعلا تجاوز من خلاله بيروقراطية التنظيمات الحزبية، وتعقيد مسطرة اتخاذ القرار فيها .فكان للثورة الرقمية دور أساسي في تنمية الوعي بضرورة التغيير، وأسهمت ولا تزال في تغذية الضمير الجمعي بمشاهد وصور وخطابات مؤثرة، ووفرت فضاء للتنسيق وتبادل المعلومات، وأسهمت بعض القنوات الفضائية في تعريف العالم بما يقع فيه من تطورات ساعة بساعة، ودقيقة بدقيقة.. بل وأسهمت في تعريف المواطن بما يقع في جميع الدول والمدن والقرى من احتجاجات، ووفرت بطريقة تلقائية فضاء للتعرف على مواقف القوى السياسية والفاعلين في الخارج والداخل.
4. خلاصات ودروس من الربيع الديمقراطي في العالم العربي
لقد نتج عن الحراك الديمقراطي عدة تغيرات في ساحة الوعي وفي الواقع السياسي وفي المفاهيم الثقافية وفي صورة العالم العربي. وإنه من المفيد الوقوف على تلك الخلاصات والاستفادة منها في ترسيخ قيم التحول الديمقراطي وتوطيد مشاريع الإصلاح في الوطن العربي. ومن تلك الخلاصات:
4-1. إرادة الشعب من قدر الله
أحيا الربيع الديمقراطي الأمل في قدرة الشعوب العربية على صناعة التغيير، وكان بيت أبي القاسم الشابي ملهما للثورات وللشعوب: ”إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”، حيث كانت عبارة “الشعب يريد” شعارا جامعا مانعا للثورات الديمقراطية، وهو الشعار الذي وضع حدا لعقود التحكم في الشعوب وتقرير مصائرها بعيدا عنها، والاستئثار بخيراتها عوضا عنها.
إن أنصار الربيع الديمقراطي ووارثيه من النخب الجديدة المستلمة لمقاليد الأمور ينبغي لهم أن يضعوا نصب أعينهم أن الشعب هو الأصل، وأن إرادته محكمة، وأن قراره سائد ونافذ وأن تمثيله والنيابة عنه في تدبير الشأن العام هو تفويض وتكليف وليس تشريفا فقط. فكل الأنساق والسياسات والتدابير والإجراءات ينبغي أن تكون مآلاتها تحقيق صلاحه ورفاهيته إعمالا للعدل واحتكاما للديمقراطية شكلا ومضمونا، قيما وسلوكا.
4-2. الاستبداد مفسدة
ومن الخلاصات الأساسية للربيع الديمقراطي أن الاستبداد شرٌّ، بغض النظر عن لونه وخلفيته وادعاءاته، فهو مفسدة بإطلاق وجزم. وإن الدواء الناجع والدائم لمنع الاستبداد هو إشاعة الحريات الفردية والجماعية، وتفتيت بناه القيمية والتنظيمية.
إن السلطة بطبعها ميالةٌ للتغوُّل والتحكم والضبط، والمدخل الأساس للحد من تغولها هو بسط الحرية والشورى للناس جميعهم، وتوزيع السلطة والثروة توزيعا يسع الناس إلى أبعد مدى ممكن بما يضمن القطع النهائي مع مداخل ومنابت الاستبداد المتأصل في الأنفس أفرادا، والعمران البشري جماعات ومؤسسات.
4-3. الفساد رأس الداء
إن الاستبداد محضِنُ الفساد الطبيعي ومجاله الحيوي، وهو سرطان لا يبقي ولا يذر، يبدأ نطفة من مني الاستبداد، فيستوي غولا مهيمنا متحكما في بنى الدولة والمجتمع، مفضيا بعد ذلك إلى العسر والضنك المفضيين بدورهما إلى الانهيار التام والهلاك المبين بكثرة الخبَث وضمور الصلاح.
وعليه لا معنى للثورة وللربيع الديمقراطي إن لم تكن من نتائجه الحد من الفساد وتقليم مخالبه بما يضمن غلبة الصلاح المؤسس للاستقرار الضامن للنماء والرفاه.
4-4. لا مفر من الإصلاح وأحسن الإصلاح ما تم بقرار واعي ومبادرة استباقية
تكشف التجارب العربية أن البنية النفسية للاستبداد والتركيبة السياسية والمصلحية لأنظمة الاستبداد تركيبة واحدة مما يشهد بحق لما ذهب إليه الكواكبي حين حديثه عن “طبائع الاستبداد “.
فالاستبداد يعمي عن رؤية حقائق الواقع، ويغري المستبد بالاستئثار بزمام الأمور، في حين أن تجارب الربيع الديمقراطي في العالم العربي تبين أن فهم الأنظمة المستبدة قاصر عن رؤية حقائق الواقع وتوجهات التغيير. وتماما كما نطق فرعون بعد أن أدركه الغرق قائلا: “آمنت بأنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل”، نطق الحكام المستبدون الذين أسقطتهم الثورات الشعبية العربية في آخر أيامهم بكلمة: “فهمتكم” أي في الوقت الميت بعد أن استجاب القدر لإرادة الحياة عند الشعوب.
II. شروط اندلاع الربيع الديمقراطي المغربي..السيناريو التراجعي ومنطق التحكم في العقد الأخير
دلت كل المؤشرات والتطورات السياسية التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة على صواب فرضية السيناريو التراجعي التي انطلقت منها أطروحة المؤتمر الوطني السادس ”أطروحة النضال الديمقراطي”، حيث تؤكد تلك المؤشرات أن مسار التحكم قد بلغ مراحل متقدمة في السنة الأخيرة ولم يتراجع ويراجع إلا بعد أن تحرك آلاف الشباب في شوارع المغرب في مبادرة سعت إلى إعادة إنتاج تجربة ميادين التحرير على الطريقة المغربية.
1. لقد تميز الزمن السياسي الذي عشناه قبل المؤتمر الوطني السادس وتواصل إلى غاية اندلاع الثورات العربية بالعديد من التراجعات المنهجية التي همت الحقل السياسي ببلادنا.
ومن المفيد في هذا السياق أن نذكر ببعض الوقائع التي تؤكد بأن “ديمقراطيتنا” الفتية تعرضت لضربات عديدة يمكن التأريخ لها رسميا بتعيين وزير أول لم يشارك في الانتخابات التشريعية لـ 2002، وما حمله هذا التعيين من تراجع عن عرف ديمقراطي كانت المصلحة الوطنية في حاجة ماسة إليه.
2. أما على المستوى الحقوقي فبعد أحداث 16 ماي الإجرامية، انطلقت حملة من التضييق والضغط على حزب العدالة والتنمية وصلت إلى درجة التدخل في شؤونه الداخلية والضغط على الحزب من أجل تقليص نسبة مشاركته في الانتخابات الجماعية لسنة 2003.
ورافق كل ذلك العمل من أجل تجفيف ينابيع الجماعات السلفية في المغرب بكل أشكاله، عن طريق فتح السجون أمام مئات المنتسبين لها بعد متابعات قضائية غابت فيها شروط المحاكمة العادلة وارتكبت فيها مختلف مظاهر الاختطاف والتعذيب داخل معتقلات لا تخضع للرقابة القضائية، ووصل التنكيل بها إلى إغلاق العديد من دور القرآن التي تنشط فيها السلفية التقليدية وتشتغل تحت أعين السلطة بقرارات إدارية اتسمت بالشطط في استعمال السلطة، ولنا أن نتذكر في هذا الصدد الأحكام القضائية الشجاعة التي اتخذها الرئيس السابق للمحكمة الإدارية بمراكش القاضية بإلغاء هذه القرارات المتعسفة، والذي لم يكن سوى القاضي الأخ جعفر حسون الذي تم عزله من سلك القضاء لاحقا !!.
3. تواصل مسلسل التراجع في المجال الحقوقي بعد ذلك، وتم رفض الترخيص بتأسيس أحزاب سياسية وشنت حملات الضغط والتضييق على الصحافة الحرة، وتم توظيف القضاء في هذا المسلسل، كما تم تعليق تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة إلى أجل غير مسمى. وظهر بوضوح أن هناك غيابا لإرادة حقيقية لإصلاح القضاء.
كما جاء قرار إغلاق مكتب قناة فضائية عربية تحكمت فيه خلفيات سياسية بحتة لا علاقة لها بالمبررات التي ساقتها السلطة لتعليل قرارها. القرار جاء في سياق العديد من التراجعات التي يعرفها مجال حرية الصحافة بالمغرب، حيث تدحرج موقع المغرب إلى الرتبة 135 في حرية الصحافة بعدما خسر 8 درجات في السنة الأخيرة.
4. وقد بلغ السياق التراجعي ذروته حين تمت صناعة حزب سلطوي جديد أصبح هو الحزب الأول في البرلمان في الولاية التشريعية السابقة دون أن يكون قد شارك في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، كما أصبح هو الحزب الأول في الجماعات المحلية بعد الانتخابات المحلية لسنة 2009، باعتماد أسلوب قائم على احتطاب العديد من الأعيان وسماسرة الانتخابات، والذين يبحثون عن مظلة سياسية لتحصين أعمالهم، هذا إضافة إلى تسخير إمكانيات الدولة وبعض أجهزة الإدارة الترابية في عدد من الحالات.
5. علينا أن نتذكر أيضا كيف تحولت وزارة الداخلية في هذه الفترة إلى ناطق شبه رسمي لهذا الحزب في بعض المحطات حينما أصدرت بلاغات “حزبية” غريبة ضد حزب العدالة والتنمية، وهي الوزارة التي أوكل إليها القانون مهمة تنظيم الانتخابات والمفترض منها الحياد واتخاذ مسافة واحدة اتجاه جميع الأحزاب!!
6. في هذا السياق أيضا جاء قرار اعتقال الأخ جامع المعتصم عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ورئيس مقاطعة تابريكت بسلا ونائب رئيس الجماعة بها. وهو تطور قدم مؤشرات خطيرة على وصول التحكم إلى درجة استخدام القضاء في تصفية حسابات سياسية، وفي استراتيجية المحاصرة السياسية لحزب العدالة والتنمية والتمكين للوافد الجديد. وبدا أن عددا من الإدارات الترابية قد تحولت إلى ملحقات تأتمر بأوامر جهات نافذة لها علاقة باستراتيجية التحكم ومخرجيها والمشرفين عليها. وتؤكد كل المعطيات المرتبطة بهذا الملف أن هذا الاعتقال حمل طابعا انتقاميا من شخص الأستاذ جامع المعتصم الذي يشهد له الجميع بالنزاهة والاستقامة، كما حمل رسالة واضحة إلى الرأي العام الوطني والمحلي غرضها ضرب المصداقية الأخلاقية لحزبنا حين كنا على بعد سنة واحدة من الانتخابات التشريعية لسنة 2012.
ولقد تجاوزت استراتيجية التحكم كل الخطوط حيث لم تتورع عن اللعب بالنار في قضايا ذات حساسية وطنية كما هو الشأن في توظيف قضايا مطلبية لإثارة أزمة في مدينة العيون أدت إلى الأحداث المؤلمة المعروفة باكديم إيزيك.
7. ولم يستثن التحكم المجال الاقتصادي، بل إنه جاء ليكرس منطق الريع الذي يعتبر أكبر آفات الاقتصاد الوطني من حيث أنه يكلف الاقتصاد الوطني فاتورة كبيرة، ويحد من فرص التقدم السوسيو اقتصادي ويعمق الاختلالات الناتجة عن عدم تكافؤ الفرص في المجتمع.
وتفاقمت ظاهرة رخص الصيد في أعالي البحار والصفقات التى تتم خارج مجال المراقبة الوطنية من كلفة اقتصاد الريع الذي يفقد المغرب ملايير الدراهم.
ونفس الشيء في قطاع النقل الذي يعد من أهم مجالات انتعاش اقتصاد الريع، ذلك أن الرخص تسلم إلى الأشخاص في غياب معايير موضوعية ودون احترام قواعد الشفافية والتنافسية. كما تواصل التحكم الاقتصادي عبر ترسيخ منظومة اقتصاد الريع في العديد من المجالات، منها تسعير ماء السقي والصناعة الغذائية وسعر الكهرباء وتفويت الأراضي لأغراض فلاحية أو للبناء والتعمير وسن الإعفاءات الضريبية وتحديد نسب فائدة القروض.
8. والخلاصة أنه قد سادت حالة من التغول والاستئساد لمنطق التحكم وبعض رموزه مما أدى إلى سيادة حالة من القلق والإحباط شملت الأوساط السياسية والحقوقية ورجال الأعمال، وتعززت في نفس الوقت بتزايد مظاهر الخصاص والإقصاء الاجتماعيين وارتفاع منسوب وعي المواطنين بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وبدا أن مشروع التحكم يسير بالبلاد إلى طريق مسدود، وهو ما جعل كل الشروط قائمة لقيام ربيع مغربي على الطريقة المغربية.
III. الربيع المغربي..وأطروحة الإصلاح في ظل الاستقرار
في هذه الظروف وتأثرا بالتحولات الكبرى التي عاشتها كل من تونس ومصر انطلقت بعض الدعوات للتظاهر يوم 20 فبراير من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
1. الدينامية السياسية لـ 20 فبراير
لقد نزل عشرات الآلاف في العديد من المدن المغربية ليعبروا بطريقة سلمية عن مطالب سياسية تتعلق بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.كما أن الأجواء التي رافقت هذه الاحتجاجات تميزت بنضج سياسي وإدراك عميق للاختلالات التي تحول بين المغاربة وبين الديمقراطية الحقيقية.
وقد تعاملت السلطات الأمنية التي حضرت بشكل رمزي باتزان مع هذه الحركات الاحتجاجية التي رفعت شعارات سياسية واضحة ترفض التحكم السياسي والجمع بين السلطة والثروة وتطالب بدستور جديد، وأخرى تطالب بإصلاح المشهد الإعلامي وبإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومعتقلي السلفية الذين اعتقلوا على خلفية أحداث 16 ماي الإرهابية.
كما رفعت شعارات ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية تتعلق بالمطالبة بالتشغيل والصحة والكرامة وتنتقد السياسات المتبعة في هذا المجال. وإجمالا فقد تمحورت مطالب الشارع المغربي حول شعار “إسقاط الفساد والاستبداد”.
وحيث إن الفساد المتجسد في عالم السياسة قد بلغ أوجه بصناعة حزب سلطوي جديد فقد عبر الشباب في مسيرات مختلفة، وبشكل واضح، عن نقد شديد لهذا الحزب الذي أصبح يتصدر المشهد الحزبي في ظرف وجيز.
الذين رفعوا هذه الشعارات كانوا يمثلون الشعب المغربي بكافة ألوانه السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية، فقد حضر في الاحتجاجات إسلاميون وعلمانيون ويساريون وأمازيغيون وليبراليون ورجال أعمال ومثقفون وفنانون…حضر الشباب والكبار والرجال والنساء، وانصهر الجميع في شعارات مسؤولة تعكس وعي الجميع بحجم اللحظة التاريخية التي تمر بها بلادنا.
ولم تكن مطالب الشارع – بغض النظر عن بعض الشعارات التى رفعتها عناصر متطرفة أو رافضة للمشاركة منذ مدة طويلة في المؤسسات- مطالب جديدة، فقد تقاطعت كثير منها مع مطالب حزب العدالة والتنمية التي طالما ناضل من أجلها داخل المؤسسات ومن خارجها. لكن ميزة هذه المطالب أنها ترفع في سياق جديد وغير مسبوق في تاريخ البلاد العربية: إنه سياق موجة المطالبة بالديمقراطية الحقيقية التي انطلقت من تونس لكي تهز الضمير العربي، وهي نفس الدينامية التي أسقطت نظام حسني مبارك وأسقطت نظام القذافي في ليبيا كما أحدثت تغييرات مؤكدة في اليمن، وهي نفس الدينامية التي مازالت جارية في كل من سوريا والبحرين.
2. خطاب 9 مارس والتفاعل السريع مع مطالب الشارع المغربي
لم يتأخر تفاعل الدولة مع مطالب الشارع المغربي حيث جاء خطاب 09 مارس 2011 ليبرهن على التفاعل السريع مع مطالب الشارع المغربي التي هي مطالب قديمة، لكنها تُطرح اليوم في سياق جديد.
لقد جاء الخطاب الملكي كي يطلق مسلسلا إصلاحيا جديدا عموده الفقرى مراجعة دستورية شاملة أسست لملكية ديمقراطية اجتماعية برلمانية متناسبة مع البيئة المغربية، فالحكومة منبثقة عن الإرادة الشعبية ورئيس الحكومة يعين من الحزب الأول الفائز في الانتخابات وهو رئيس السلطة التنفيذية، والسلطة مقرونة بالمساءلة والمحاسبة، والقضاء سلطة مستقلة. إننا بالتأكيد أمام تعديلات بنيوية مهدت لدستور جديد وفتحت آفاقا جديدة لعهد جديد.
لقد جاء الخطاب الملكي كي يبرهن على أن هناك مقاربة أخرى ممكنة في التعاطي مع مطالب الشعوب تختلف عن المقاربات التي اعتمدت في البلدان العربية الأخرى والتي لم تخرج عن لغة الرصاص والاستخدام المفرط للقوة ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الضحايا وآلاف الجرحى والمعطوبين.
وقد مكنت هذه المقاربة من تجنيب بلادنا السقوط في مستنقعات الفتنة والعنف، مما دفع بالعديد من المراقبين إلى الحديث عن “أطروحة الاستثناء المغربي”، وقد ساهم في هذا المسار الخيار الذي طرحه حزب العدالة والتنمية على جميع الفرقاء وهو خيار “الإصلاح في إطار الاستقرار”، أو ما سميناه آنذاك بالخيار الثالث.
وبين يوم 20 فبراير 2011 إلى يوم 25 نونبر من نفس السنة تمكن المغرب من أن يحقق خطوات كبرى في اتجاه انجاز ربيعه الخاص، حيث كان للمغرب من التبصر والقدرة على قراءة التحولات والتعامل معها بقدر من الحكمة جعلت بلادنا تخرج من استحقاقات الربيع الديمقراطي بأقل خسارة ممكنة وبتعزيز المسار الديمقراطي والتوفيق المتبصر بين معادلة الإصلاح والاستقرار التي استعصى حلها في عدد من الدول العربية.
3. الطريق الثالث..خيار حزب العدالة والتنمية
تفاعل حزب العدالة والتنمية بطريقته الخاصة مع هذه الدينامية مثمنا جميع المطالب السياسية التي تندرج في إطار إصلاح الوضع السياسي والاجتماعي والحقوقي، ورافضا في نفس الوقت بعض الشعارات الراديكالية التي كانت تمس ببعض الرموز والثوابت الوطنية.
وانخرط حزب العدالة والتنمية في حركية سياسية قوية تمثلت في صياغة مذكرة الإصلاحات الدستورية التي اعتبرت من أجود الوثائق باعتراف العديد من المراقبين، وتدشين حملة من المهرجانات واللقاءات التواصلية مع المواطنين دفاعا عن خيار الإصلاح في ظل الاستقرار.
وقد كان لحزب العدالة والتنمية تأثير واضح في إقناع المغاربة بهذا الخيار وهو ما تجاوب معه الشعب المغربي يوم 25 نونبر 2011 حين بوأ حزب العدالة والتنمية الرتبة الأولى وهو ما مكنه من قيادة الحكومة لأول مرة في تاريخ المغرب.
IV. من أطروحة النضال الديمقراطي إلى أطروحة البناء الديمقراطي
1. في ضوء كل تلك المتغيرات، وفي ظل قراءة واعية بالفرص التي تتيحها والإكراهات والصعوبات التي تنتج عنها، تتأكد الحاجة إلى تطوير رؤيتنا السياسية لتتناسب مع المعطيات الجديدة.
فمضمون النضال الديمقراطي يأخذ اليوم بعدا آخر بالنظر إلى موقع الحزب وما يتيحه من إمكانات، وبالنظر إلى الإطار الدستوري المتقدم والاستحقاقات المرتبطة به: أي أن هناك حاجة للانتقال من أطروحة النضال الديمقراطي إلى أطروحة البناء الديمقراطي، البناء الديمقراطي باعتباره مستوعبا للنضال الديمقراطي ومضيفا له مسؤوليات ومهام يفرضها موقع الحزب في التدبير.
2. لئن كان الحزب قد عقد مؤتمره السادس في مرحلة سِمَتٌها الرئيسة كانت هي التراجع، سواء على مستوى المحيط الإقليمي الواسع أو على المستوى الوطني، مع وجود بعض الاختراقات المحدودة هنا وهناك على المستوى الأول، وبعض الثغرات المحدودة على المستوى الوطني، مع استهداف واضح للحزب، فإن المرحلة الحالية تتميز بظروف مغايرة تماما سواء على المستوى الداخلي حيث تغير تموقع الحزب، بانتقاله من المعارضة إلى قيادة الحكومة.
أما على المستوى الخارجي فإن ربيع الثورات مرشح للتقدم والتطور. غير أن ذلك لا يعني أن مهام النضال من أجل تعزيز المكتسبات وترصيدها والعمل على توسيعها قد انتهت، بقدر ما يعني ذلك أن شروطا وفرصا أخرى قد توفرت وأن تهديدات أخرى قد استجدت.
3. إن استحضار تاريخ التحولات السياسية الكبرى بما فيها تاريخ الثورات الكبرى في العالم يكشف أن هناك قانونا مطردا هو أن كل ثورة كبرى تواكبها ثورة مضادة، وأن كل محاولة للإصلاح تتصدى لها قوى مضادة ليس من مصلحتها أن يتحقق الإصلاح، وأنها تتضرر منه أو تفقد من جرائه ”مكاسب” ومواقع. كما أن اللحظة الحاسمة في جميع لحظات التحول هي اللحظات الانتقالية، التي تفرض عددا من التكيفات على كل الأطراف المشاركة في عمليات التحول ومشاريع الإصلاح.
في هذا السياق تنبغي الإشارة إلى تصور رائج في المنطقة العربية وفي المغرب أيضا، تصور يرى في الربيع الديمقراطي مجرد قوس فتح سرعان ما سيتم إغلاقه حين سيخمد فوران الشارع العربي، حيث ستعود الأوضاع إلى سابق عهدها بعد أن تكون بعض الإصلاحات التجميلية أو الترقيعية قد استهلكت ذلك الفوران.
ويوجد وراء ذلك التصور دون شك جهات مقاومة للإصلاح. وهي -إن كانت قد توارت عن الأنظار خلال المرحلة التي اشتعل فيها الشارع العربي- فإنها لم تستسلم لمنطق التاريخ، بل إنها تسعى للالتفاف حول الإصلاح وتحاول إفراغه من مضامينه، وهي في بعض دول الحراك العربي تعيد تنظيم نفسها وتستعد لاستعادة المبادرة، والانقضاض على مكاسب الثورات وتحجيم مشاريع الإصلاح بمختلف صيغه وأشكاله.
4. وفي المغرب يكشف تحليل المعطيات والوقائع التي تلت تعيين الحكومة – بعد التقدم البين الذي حققه حزب العدالة والتنمية في استحقاقات 25 نونبر 2011، وتزايد التعاطف الشعبي- على سعي بعض التوجهات التحكمية أيضا لإعادة تنظيم نفسها، كما يدل على ذلك مثلا حملات منتظمة للعودة إلى إثارة قضايا مفتعلة وموهومة من قبيل الخطر الذي يتهدد الحريات الفردية، والادعاء بأن هناك خطة لتقسيم الأدوار من أجل السعي إلى أسلمة الدولة والمجتمع، والانزعاج الواضح من عدد من المبادرات الأولية في اتجاه تفكيك اقتصاد الريع كما هو الحال في مجال النقل والإعلام والعمل المدني.
ويدل عليه التحريض الواضح أحيانا من أجل افتعال أزمات اجتماعية ورفع مطالب تعجيزية حتى قبل أن يتم تنصيب الحكومة وقبل المصادقة على قانون المالية، والضغط من قبل البعض من أجل تقاسم تدبير الشأن العام بدعوى الإشراك والتشاركية، في سعي لإفراغ منطق التداول الديمقراطي القائم على أحقية الأحزاب التي حازت على ثقة صناديق الاقتراع في تدبير الشأن العام باعتبار أنها هي التي ستتولى تقديم الحساب للمواطن الذي صوت عليها في نهاية المدة الانتدابية.
5. من جهة ثانية تبرز تحديات أخرى ترتبط باتساع مساحة الانتظارات الشعبية والآمال المعلقة على الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية. آمال مرتبطة بحجم الخصاص الموجود في الخدمات المقدمة للمواطنين، وفي الفوارق الهائلة بين فئات المجتمع واحتكار فئات قليلة لثمار النمو، واتساع بطالة الشباب وضعف التأطير وقصور البنيات الأساسية عن مسايرة التمدد العمراني وغيرها، وعموما ضخامة التركة الكبرى لعقود من سوء تدبير الشأن العام وهشاشة الاقتصاد الوطني وضعف الحكامة وسيادة الريع في مجالات الاقتصاد والإعلام وغيرها إلى درجة تحوله إلى ثقافة جعلت عددا من فئات المجتمع تعتبر المطالبة بنصيبها منه من صميم المطالبة بالحقوق المشروعة أو من صميم الدفاع عن الحقوق المكتسبة.
6. وإذا أضفنا إلى ذلك صعوبات الظرفية الاقتصادية العالمية المتمثلة في ارتفاع أسعار المحروقات على المستوى العالمي، وما تشكله من تهديد للتوازنات الماكرو اقتصادية ومخاطر على استقلال القرار الوطني في المجالات المالية والاقتصادية، وعلى مستقبل الأجيال المقبلة وحقوقها الاقتصادية والاجتماعية باستحقاقات تقويم هيكلي قد يفرض -في حالة عدم المبادرة- إلى القيام بإصلاحات جذرية في بنية الدولة وبنية السلطة وفي بنية الاقتصاد.
كل ذلك يؤكد أنه لا خيار أمام المغرب سوى أن يمضي قدما إلى الأمام دون تردد في اتجاه البناء الديمقراطي والتنزيل الفعلي والديمقراطي لمضامين الدستور ولخيار الجهوية الموسعة، وأن يقطع مع الأساليب العتيقة في تدبير شؤون الدولة والمجتمع. إن نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي نجاحا كاملا غير منقوص، عاجلا دون تلكؤ أو تأجيل لمسالةٌ حيويةٌ، وهو أيضا التجسيد الفعلي للشعار الذي حمله الحزب ولا يزال: “الإصلاح في ظل الاستقرار”.
7. وإذا كان المغرب قد استطاع أن يجتاز بنجاح استحقاقات الربيع الديمقراطي حيث تمكن من أن يخرج منتصرا باعتباره يمثل إحدى التجارب القليلة في المنطقة التي تعيش في ظل الاستقرار، مع ما لهذا الوضع من قيمة كبرى وما ينتج عنه من فرص بالنسبة للمغرب سواء على مستوى جلب الاستثمارات أو على مستوى توفير مناخ إيجابي يمكن من تحقيق إصلاحات هادئة قد تكون بطيئة ولكن مؤكدة ودائمة، فإن ذلك إنما كان ممكنا لكون قيادته امتلكت الجرأة لاقتراح تعاقد مجتمعي جديد قوامه الإصلاح.
ولهذا نؤمن في حزب العدالة والتنمية أنه بقدر ما يوفر الاستقرار شرطا لإصلاح مستدام، فان الإصلاح أيضا هو شرط لاستقرار مستدام.. فتواصل الدينامية الإصلاحية والتنزيل الفعلي والديمقراطي لمقتضيات الدستور ولمس آثاره على مستوى المؤسسات والسياسات وعلى مستوى القطع النهائي مع التحكم نهجا للحكم والريع نهجا في الاقتصاد، هو الضمانة لاستدامة الاستقرار وتعزيزه وتحقيق الانتقال الديمقراطي بصفة نهائية لا رجعة فيها.
8. تبعا لذلك فإن للاستقرار بعدين متكاملين:
- بعد مؤسساتي سياسي يرتكز على تحقيق التطور المأمول في إطار الملكية الضامنة لوحدة الوطن، وعلى تطوير المؤسسات القائمة في اتجاه تعزيز البناء الديمقراطي.
- بعد اجتماعي يأخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعي والاقتصادي الصعب الذي يعرفه المغرب وحجم الانتظارات على هذا المستوى والحاجة الماسة إلى الاستجابة لها.
ومن ثم فإن أطروحة البناء الديمقراطي لا تأخذ مضمونها الحقيقي فقط من خلال الديمقراطية السياسية، ديمقراطية المؤسسات والانتخابات، بل وجب للإصلاح السياسي أن يقود إلى التنمية الاقتصادية من جهة، ومن جهة ثانية وجب أن يكون من مشمولات النموذج الاقتصادي والتنموي، التنمية الاجتماعية والسعي لتحقيق العدالة فيما بين الفئات والمجالات، ومن ثم نرى أنه يتعين السعي إلى المزاوجة بين تحقيق الانتقال الديمقراطي وتعزيز البناء الديمقراطي وبين تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
إن البناء الديمقراطي وجب إذن أن يكون محكوما بمقصد تحقيق الكرامة للمواطنين، وينبغي أن يقود إلى التنمية. أي أن تتلازم الديمقراطية والتنمية تلازما جدليا.
كما ينبغي أن يكون نموذج التنمية نموذجا يستحضر التوزيع العادل لثمارها بين الفئات والجهات لا أن تكون تنمية على صعيد المؤشرات الرقمية الجافة التي تستفيد منها فئة محدودة وتقصي أغلب الفئات والجهات.
V. في مجالات وأولويات البناء الديمقراطي
1. لقد أتاحت المقاومة السياسية التي تولى حزبنا زمام مبادرتها في أوج استئساد التوجهات السياسية التحكمية، وزكاها الحراك الشبابي الذي عرفه المغرب خلال سنة 2011، ثم المبادرة الملكية الشجاعة والاستباقية، التي تفاعلت بشكل إيجابي مع التطلعات الإصلاحية والشعبية، إمكانية دخول المغرب إلى مسلسل إصلاحي سياسي ودستوري حفظ للمغرب مكتسبات الوحدة والاستقرار والهوية. ووضع بلادنا على أبواب الملكية المغربية الدستورية الثانية بعد الاستقلال. إنها مبادرة ستمكن المغرب من أفق واعد -إن تم استثماره وحسن تفعيله على أرض الواقع- ومن الانتقال بصفة نهائية من دولة التحكم إلى دولة التشارك بين مجموع مكوناتها في القرار في خدمة الصالح العام.
2. تستند أطروحة المؤتمر الوطني السابع على عدة مرجعيات متكاملة تحدد كل منها التزامات الحزب وهي:
- الوثائق المذهبية والسياسية المؤسسة والتي تحدد الالتزامات المذهبية والسياسية الكبرى. ومنها التحليلات والعناصر البرنامجية التي وردت في أطروحة المؤتمر الوطني السادس والتي لا تزال لها راهنية في سياق المؤتمر الوطني السابع.
- تصور الحزب لإصلاح نظام الدولة والمجتمع كما عبرت عنه مذكرة الحزب الخاصة بالمراجعة الدستورية التي كانت من إحدى أجود الوثائق التي أنتجت خلال النقاش العمومي حول المراجعة الدستورية.
- البرنامج الانتخابي الذي يشكل قاعدة لالتزام الحزب تجاه ناخبيه الذين وضعوا فيه الثقة.
- ميثاق الأغلبية الحكومية الذي يشكل القدر المشترك الذي يلتقي فيه حزبنا مع مختلف مكونات الأغلبية والذي على أساسه تم بناء البرنامج الحكومي الذي صوت لفائدته حزبنا من خلال فريقه النيابي.
إن الحزب يعتبر نفسه جزءا لا يتجزأ من الأغلبية، بل إنه يشكل قاطرتها بحكم قيادته للحكومة، وهو ملزم سياسيا وأخلاقيا بمساندتها.
لكن في المقابل، فإن الحزب ملزم بمواصلة النضال انطلاقا من مرجعياته ووفاء لبرنامجه السياسي وتعاقده مع المواطنين، مما يعني العلاقة الجدلية بين مهام النضال الديمقراطي ومهام البناء الديمقراطي.
وهذا يعني أنه- بقدر ما يجب على الحزب أن يشكل قطب الرحى في الأغلبية الحكومية وفي مساندة البرنامج الحكومي- فإنه من المفيد للمجتمع وللحزب أن يواصل العمل على تنزيل رؤيته في الإصلاح، بما يرتبط بذلك من مقتضيات سياسية وتنظيمية.
وتتأكد هذه المسألة بالنظر إلى أولوية تنزيل المقتضيات الجديدة للدستور، وكون الحزب شريكا في الحكم وليس حزبا حاكما بالمعنى السائد في الدول العريقة في التجارب الديمقراطية، وبالنظر إلى طبيعة النظام الانتخابي الذي لا يسمح لحد الآن لحزب سياسي أن يحكم لوحده، وبالنظر إلى الطبيعة الانتقالية للمرحلة – التي على فرض توفر حزب معين على أغلبية مطلقة- تفرض اعتماد مقاربة تشاركية كاد ضعفها أو إغفالها أن يرجع عددا من التجارب الثورية العربية إلى مربع البداية.
3. وبالرجوع إلى المرجعيات السابقة يتأكد أن التطورات التي عرفها العالم العربي، وبلدنا في الآونة الأخيرة تشهد بصحة ما ذهبت إليه أطروحة المؤتمر السادس التي ورد فيها:”إن الاختيار الديمقراطي القائم على إقرار سيادة الشعب وعلى تعددية حزبية حقيقية وتداول فعلي للسلطة وتكافؤ الفرص بين الجميع، وإنهاء كل مظاهر الريع السياسي هو المدخل لإقرار العدالة وبناء التنمية كما أنه مدخل كل الأطروحات التي تقدم في الساحة السياسية عموما وداخل الحزب لمقاربة إشكالية الإصلاح. فالمدخل الديمقراطي هو مدخل لمقاومة الفساد، فالتقارير المتخصصة التي تعنى بمكافحة الفساد تؤكد على عدة آليات من أهمها توسيع رقعة الديمقراطية والمساءلة، مما يتطلبه ذلك من توسيع صلاحيات المجالس النيابية والأجهزة الرقابية ومنظمات المجتمع المدني وترسيخ آليات التداول على السلطة وإصلاح القضاء وتوفير ضمانات حصانة الصحفي ورجل الإعلام…. وتطويق لاستحكام الفساد،…”.
“إن إقرار الديمقراطية هو أيضا السبيل إلى تعزيز المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع وتأكيد الصدور عنها في السياسات العمومية للدولة، وهو السبيل لدعم الهوية الوطنية في أصالتها وتعدديتها وتكامل مكوناتها. فالديمقراطية في الجوهر إعلان لسيادة الإرادة الشعبية كما أنها في السياق المغربي، حيث المجتمع المغربي مجتمع متمسك بمرجعيته ومعتز بهويته ومتنوع في تركيبته، لا يمكن أن تنتج سوى سياسات عمومية ترعى ذلك، ولا تصور غير ذلك إلا إذا تم التمكين لديكتاتورية أقلية بطرق غير ديمقراطية، توظف مواقعها لغرض مرجعيات وهويات أخرى ونظام أخلاقي غريب عن المجتمع المغربي.”[1].
4. في هذا الصدد حددت أطروحة المؤتمر السادس مقاصد النضال الديمقراطي، في ” العمل على إقرار إصلاحات سياسية تعزز المسؤولية الحكومية، وتعزز صلاحيات ومصداقية المؤسسات، وتعمل على توسيع وتقوية الاختصاصات الرقابية والتشريعية للبرلمان وتقوية الضمانات الدستورية لاستقلال القضاء مع تقوية الجهاز القضائي وتعميق نزاهته والرفع من فاعليته، وتوفر الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتعيد الاعتبار للمشاركة السياسية، وتعمل على توسيع الجهوية والتنظيم اللامركزي للمملكة باعتباره أحد مداخل دمقرطة الحياة السياسية والاقتصادية وأحد بوابات توسيع مشاركة المواطنين في تدبير الشأن العام، فضلا عن دمقرطة الشأن المحلي باعتباره من أهم المداخل أيضا إلى تقرير البناء الديمقراطي.
كما اعتبرت أطروحة المؤتمر الوطني السادس أن من أهداف النضال الديمقراطي للحزب باعتباره شعارا للمرحلة حماية الحريات العامة والسياسية ووقف الانتهاكات والتراجعات في مجال حقوق الإنسان وتقرير دولة الحق والقانون وتقوية مسار النهوض بحقوق الإنسان والحريات العامة ودمقرطة الإعلام العمومي وتعزيز حرية الصحافة، إضافة إلى إصلاح وتحديث الإدارة العمومية وتعميق الشفافية”[2].
5. ومن جهة أخرى عبرت مذكرة الحزب حول المراجعة الدستورية عن المضامين الجوهرية لتصورنا للإصلاح السياسي المحكوم بمقصد استكمال البناء الديمقراطي حيث أكدت على تسع توجهات أساسية حددتها على الشكل التالي:
- دستور يرقى بمكانة المرجعية الإسلامية ويعزز مقومات الهوية المغربية؛
- ملكية ديمقراطية قائمة على إمارة المؤمنين؛
- تقدم رائد في صيانة الحريات العامة وحقوق الإنسان؛
- ديمقراطية قائمة على فصل السلط وضمان التوازن فيما بينها؛
- برلمان ذو مصداقية بصلاحيات واسعة وحكومة منتخبة ومسؤولة؛
- الارتقاء بالقضاء وإقرار استقلاله؛
- جهوية متقدمة بضمانات دستورية واسعة؛
- الحكامة الجيدة الضامنة للتنافسية والمنتجة للفعالية في تدبير الشأن الاقتصادي.
6. إن حزبنا الذي يعتز بأن عددا كبيرا من مقترحاته قد وجدت طريقها إلى دستور يوليوز 2011 تقع اليوم على عاتقه مسؤوليات متعددة، منها – على المدى القريب والمتوسط- الإسهام في تنزيل أحكام ومقتضيات الدستور تنزيلا ديمقراطيا، إضافة إلى مساندة كل المبادرات والمشاريع والسياسات العمومية الإصلاحية من موقع المساندة المبصرة والناصحة.
أما على المستوى المتوسط والبعيد: الاستمرار في النضال من أجل تطوير منظومتنا الدستورية بناء على الأفكار والمقترحات الواردة في المذكرة التي قدمها الحزب في هذا المجال. وحيث إنه لا سبيل إلى الكمال المطلق في مجال البناء الدستوري، فإن الحزب سيواصل نضاله من أجل تطوير منظومتنا الدستورية بما يتناسب مع التقدم في تنزيل المكتسبات الدستورية التي جاء بها دستور 2011 وبما يتناسب مع تطورنا الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
7. وحيث إن عددا كبيرا من التوجهات التي ضمنها حزبنا في مذكرته قد وجدت طريقها إلى دستور سنة 2011، مما جعله يصوت بالإيجاب عليه ويدعو الشعب المغربي إلى مثل ذلك، وبالنظر إلى الموقع الجديد للحزب باعتباره حزبا يقود الحكومة ويحتل موقع الصدارة في الأغلبية الحكومية، فإن ذلك يفرض عليه مسؤوليات جديدة في مجال المبادرة وريادة الانتقال الديمقراطي وتعزيز البناء الديمقراطي. إن ريادة الانتقال الديمقراطي والبناء الديمقراطي هي استكمال لمهام النضال الديمقراطي من موقع جديد وأدوات جديدة وخطاب جديد.
8. تتمثل تلك المسؤولية التاريخية في الإسهام في التنزيل الديمقراطي للدستور. وهو التنزيل الذي يمر ضرورة عبر الإسهام الفاعل في إنجاز المشاريع المهيكلة التالية:
- إخراج القوانين التنظيمية باعتبارها قوانين مكملة للدستور، وأن العديد منها سيعكس خيارات مجتمعية كبرى تحتاج إلى مقاربة تشاركية وأفق وطني بعيد عن الحسابات السياسية الضيقة دون أن يكون ذلك على حساب قواعد الحسم الديمقراطي.
- القطع مع منطق التحكم والوصاية والانتقال إلى منطق الاحتكام إلى الشعب، بما يعنيه ذلك من قطع نهائي مع منطق التدخل في الانتخابات والتساهل مع الفساد والإفساد الانتخابيين وضمان التدبير النزيه والشفاف لها والاحترام الكامل لنتائجها، وأن ننتقل إلى مصاف الدول التي تعتبر أن الكلمة الأخيرة هي ما يصدر من نتائج عن صناديق الاقتراع. وما يرتبط بذلك من انتقال إلى أحد أركان الثقافة الديمقراطية وهي الاعتراف بنتائج الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة أيا كانت تلك النتائج.
- العمل على إعادة صياغة نظام الحكامة في اتجاه التقليص من المركزية ومن منطق التحكم وتنزيل ورش الجهوية الموسعة تنزيلا ديمقراطيا وتحقيق اللامركزية.
- إرساء قواعد الحكامة الجيدة الضامنة للتنافسية والمنتجة للفعالية العمومية في تدبير الشأن الاقتصادي وتفكيك منظومة الريع الاقتصادي، ومنع أي توظيف للجاه السياسي في المجال الاقتصادي وإشاعة ثقافة المبادرة وقواعد المنافسة الشريفة، وتفعيل دور البرلمان في المراقبة على المؤسسات العمومية والتأكيد على حرمة المس بالمال العام وخضوع المتصرفين فيه للرقابة والمحاسبة.
VI. في منهجية البناء الديمقراطي
1. لقد استرجعت مقولة “الاستثناء المغربي” من جديد قسطا كبيرا من مصداقيتها بعد ما كان قد لحقها من ضرر خلال المرحلة السابقة. جاء ذلك نتيجة طبيعية للمقاربة الاستباقية التي اعتمدها ملك البلاد بإطلاق مسيرة إصلاحات جديدة، ثم نتيجة أيضاً لمقاربة حزب العدالة والتنمية ومنهجيته في العمل السياسي الذي اعتمده من بداية تأسيسه، أي مقاربة الإصلاح في نطاق الاستقرار. فحزبنا كما هو معلوم إذ قدر عدم الخروج مع حركة 20 فبراير إلا أنه في الوقت نفسه ساند مطالبها الإصلاحية التي تتلاقى مع مطالبه السابقة واللاحقة على ميلاد الحركة.
واليوم توجد تجربة العدالة والتنمية، والتجربة المغربية عموما، موضع تطلع من لدن عدد من المراقبين الغربيين ومن لدن عدد من الدول الصديقة والشقيقة، حيث أثبت المنهج العام الذي تبناه الحزب في التعاطي مع الشأن السياسي نجاعته وفاعليته في وقت كانت كل العوامل تدفع إما إلى اليأس أو إلى الإحباط، وتعمل لصالح أطروحات المقاطعة والرفض، أو تميل إلى الغلو والتطرف الفكري والسياسي.
2. آمن حزبنا بنهج المشاركة السياسية من داخل المؤسسات، وهو الخط العام الذي تبنته معظم الأحزاب والحركات السياسية التي تنطلق من المرجعية الإسلامية في العالم الإسلامي، والمنهج الذي أثبت نجاعته ومردوديته بدليل ما ووجهت به تلك المشاركة من قبل الأنظمة الاستبدادية في المنطقة من رفض وتصدي قبل الربيع الديمقراطي، وبدليل أن الحركات التي تبنت خط المشاركة هي التي كانت مؤهلة للتعاطي مع مرحلة ما بعد الثورات العربية واستثمارها من أجل التقدم خطوة على مسار المشاركة في صنع القرار السياسي وكسر طوق التهميش والحصار. وأثبت فعاليته في الحالة المغربية حيث يثبت التاريخ السياسي المغربي أن خيار المقاطعة لم يثمر في النهاية سوى مزيد من التهميش الخارجي والتقوقع الذاتي.
3. وحيث إن المشاركة السياسية من داخل المؤسسات القائمة لا تتعارض مع مواصلة النضال من أجل تحسين شروط المشاركة سواء من جهة الضمانات القانونية لنزاهة الاستحقاقات الانتخابية أو من جهة تعزيز صلاحيات تلك المؤسسات، فإن النضال الديمقراطي من داخل نفس المؤسسات هو مدخل لتحسين شروط المشاركة. وأولى من ذلك أن تكون المشاركة من جهة تدبير الشأن العام متيحة لفرص أكبر لتحقيق الانتقال الديمقراطي وتعزيز البناء الديمقراطي.
4. الشراكة منهجية للبناء الديمقراطي: تعتبر الشراكة خيارا منهجيا استراتيجيا لحزب العدالة والتنمية، من منطلق قناعته بأن مستقبل الوطن يصنعه أبناؤه جميعهم، وأن التحديات التنموية الجسيمة التي ينبغي للمغرب أن ينجزها ويتقدم في مسارها لا يمكن أن يكون لها معنى أو جدوى إن لم تسند من قبل الجميع تفكيرا وتخطيطا وإنجازا وتقييما وتطويرا.
وإن تعزيز البناء الديمقراطي باعتباره مهمة المرحلة لن يتأتى إلا بشراكة حقيقية مع الأطراف التالية:
- شراكة وثقة من أجل علاقة متوازنة ومنتجة مع المؤسسة الملكية
على اعتبار أن تاريخ المغرب يبين أنه متى التقت الإرادة الشعبية مع الإرادة الملكية، ومتى التقت إرادة الملك مع إرادة النخب وتوافقت، إلا وتمكن المغاربة من أن يبدعوا وأن يتجاوزوا أزماتهم مهما كبرت وتعقدت، كما أن التاريخ يشهد بأن أي ارتباك في العلاقة بين المؤسسة الملكية والنخب وعموم الشعب يؤدي إلى إشكالات حقيقية تعيق التقدم وتربك الاستقرار.
واليوم يتجه المغرب إلى بناء نموذج متوازن لتدبير العلاقة بين الملكية والنخبة السياسية، يقوم من جهة على المحافظة على مكانة الملكية في النظام السياسي وإعطائها دور أساسيا وفاعلا في الحياة السياسية المغربية. وهو ما يعني توسيع مجال المسؤولية السياسية للأحزاب في تسيير الشأن العام، والتوجه إلى القطع مع الثقافة السياسية التي كانت سائدة لحد الآن والتي كان ينظر من خلالها للفاعل السياسي باعتباره موظفا ساميا، في أحسن الأحوال، يتلقى التعليمات والتوجيهات.
المطلوب إذن من حزب العدالة والتنمية أن يرسي قواعد علاقة متوازنة ومنتجة مع المؤسسة الملكية، أساسها الإصلاح، وقوامها الثقة والتعاون والتفاهم بما يضمن وحدة واستقرار البلد، وإطارها الدستور بما هو الوثيقة الأسمى المنظمة للعلاقات بين المؤسسات.
- شراكة مع الأحزاب السياسية والمؤسسات المنتخبة
إن البناء الديمقراطي مسؤولية الأحزاب والمؤسسات المنتخبة بالدرجة الأولى، فالأحزاب هي الفاعل الأول في الديمقراطية وهي القاطرة التي ينبغي أن تعمل على قيادة المجتمع من أجل تعزيز البناء الديمقراطي في جميع المجالات والمستويات وترسخ من خلال الممارسة اليومية للاختيار الديمقراطي كخيار لا رجعة فيه في المؤسسات والسياسات والعلاقات وفي الثقافة العامة والسلوك اليومي للمواطنين لأن صلاح المجتمعات إنما هو في صلاح نخبها وفي صلاح الهيئات التي تؤطرها.
وبقدر ما ينبغي التصدي لكل محاولات العودة إلى التحكم وللمعارضات الخفية والأحزاب السرية الحارسة للمصالح غير المشروعة، ينبغي أن يرتكز توجهنا السياسي على تعزيز دور الأحزاب وتقويتها بما في ذلك أحزاب المعارضة.
- شراكة مع المجتمع المدني
لا يتصور تقدم في مسار البناء الديمقراطي دون انخراط للمجتمع المدني، الذي يقع على عاتقه مهمة تعميق ثقافة الديمقراطية في المجتمع بما هي قيم تنبني على احترام قيم الحرية والكرامة الإنسانية وحق الاختلاف والتعددية وعلى حق الأقليات. وهي القيم التي وجب العمل على ترسيخها وتعزيزها في المجتمع بغرض تحصين الديمقراطية من مخاطر الاستبداد الذي هو محصلة العلاقة بين مستبد وقابل للاستبداد. المجتمع المدني ينبغي أن يكون شريكا أساسيا في الإصلاح وحماية مشاريعه والوقوف في وجه المعوقين له والساعين إلى الالتفاف عليه.
إن تعزيز الديمقراطية التشاركية كمقتضى دستوري والعمل على تنزيله على أمثل وجه هو أحد استحقاقات البناء الديمقراطي. إنه ترسيخ لثقافة المسؤولية على اعتبار أن البناء الديمقراطي ليس مسؤولية الدولة فحسب، وليس مطلبا سياسيا فقط، بل هو كفاح يومي ميداني وثقافة ينبغي أن تترسخ في كل مؤسسات المجتمع انطلاقا من الأسرة فالمدرسة والجمعية والنادي إلى غير ذلك من الفضاءات والمؤسسات الاجتماعية.
- شراكة مع الفاعلين الاقتصاديين
إن تعزيز البناء الديمقراطي ينبغي أن يكون خيارا إراديا للفاعلين الاقتصاديين ذلك أن الديمقراطية وما ينبغي أن تفضي إليه من حكامة جيدة محققة للنزاهة وموفرة لشروط الشفافية والتنافسية، هي شرط حيوي لتطوير الاقتصاد وتعزيز المبادرة الحرة وتقوية دور الفاعلين الاقتصاديين كمساهمين أساسيين في توفير شروط التنمية. كما أنها شرط من الشروط الأساسية التي بدونها لا مجال لأي نمو اقتصادي. والشراكة مع الفاعلين الاقتصاديين -كما أنها ترتب على من يتولى تدبير الشأن العام مسؤوليات في توفير مناخ الاستثمار وتوفير الشروط القانونية والمؤسساتية والبنيات التحتية المشجعة عليه- فإنه يرتب على المقاولة وعلى الفاعلين الاقتصاديين مسؤوليات متعددة على رأسها المواطنة الضريبية والسلوك التضامني والمسؤولية الاجتماعية التي بدونها لا يكون هناك استقرار سياسي أو سلم اجتماعي.
- شراكة مع الفاعلين الاجتماعيين
إن مأسسة الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية حاجة ماسة من أجل إقرار علاقات اجتماعية قائمة على العدل والمواطنة الاجتماعية والتحكيم الاجتماعي كدور للدولة وذلك على أساس أن الواجبات بالأمانة والحقوق بالعدالة.
5. وصفوة القول إننا جميعا شركاء في البناء الديمقراطي ملكا وأحزابا ومجتمعا مدنيا وفاعلين اقتصاديين واجتماعيين، شركاء في مسار التقدم في تعزيز الاختيار الديمقراطي بما هو الشرط الأساس للقطع مع الفساد والاستبداد، وبناء الوطن الآمن المستقر الضامنُ لأبنائه الكرامةَ والتنميةَ والعدالةَ الاجتماعية.
شركاء بفعالية وريادية في البناء الديمقراطي، وتعزيز مكتسباته وحمايته من عوامل النكوص والتعرية.. بناء ديمقراطي بما هو شرط وبما هو سبيل لتحقيق الكرامة الإنسانية وتعزيز الحريات الفردية والجماعية وبناء دولة الحق والقانون واحترام حقوق الإنسان، وبما هو شرط للتنمية ومدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية.
VII. في المشروع المجتمعي لحزب العدالة والتنمية
1. بالنظر إلى أن البناء الديمقراطي لا يتوقف عند الشق السياسي والمؤسساتي وإنما يتعداه إلى بناء نموذج مجتمعي، فإن أي إصلاحات سياسية ومؤسساتية إنما تكسب قيمتها من المضمون الديمقراطي وللمشروع المجتمعي الذي نبشر به ومدى ترسيخه للديمقراطية كثقافة وسلوك جمعي، فإنه تقع على حزبنا مسؤولية تاريخية في ترسيخ نموذج مجتمع مغربي ديمقراطي وأصيل يتجسد عبر سياسات عمومية وقطاعية ويوفر الشروط لاضطلاع كافة حلقات البناء الاجتماعي من المدرسة إلى الأسرة إلى المجتمع المدني بترسيخ الديمقراطية ثقافة وسلوك وعلاقات وممارسات يومية.
وحيث إن المشروع المجتمعي بهذا المعنى هو أوسع من المشروع السياسي ومن المشروع الاقتصادي والتنموي، على اعتبار أن الأول هو الذي يضع القيم الكبرى المؤسسة والمؤطرة لهذين المشروعين، والرؤيا الناظمة لكافة النضالات الساعية إلى تحقيق تلك المشاريع في الواقع.
2. ونظرا لما يفرضه موقع التدبير من إمكانيات مؤسساتية وقانونية في بلورة نموذج مجتمعي وطني يمكن من تعبئة كل مكونات المجتمع حوله. وتتأكد تلك المسؤولية بالنظر إلى عدة تحديات منها وجود نماذج “إسلامية” غير ديمقراطية تقدم نموذجا مجتمعيا متخلفا عن الروح التقدمية التي جاء بها الإسلام، والتي جعلته متقدما بها على عصره وزمانه وباعثا لحركة تحرر فكري واجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي.
إن موقع التدبير اليوم يختبر بالملموس القدرة التجديدية لحزبنا وقدرته على إبداع مقاربات وممارسات وبرامج ملموسة فيما يتعلق بعدد من القضايا ذات الصلة بقضايا الحرية والديمقراطية، وما يرتبط بها من قضايا الحقوق الفردية والجماعية وحقوق المرأة وقضايا التعددية الفكرية والسياسية.
3. يتأكد هذا التحدي أيضا بالنظر إلى أن بلادنا هي جزء من المجتمع الدولي ومنخرطة فيه، فتصديق المغرب على عدد من الاتفاقيات الدولية، وانخراطه في عدد من الشراكات من قبيل الشراكة من أجل الديمقراطية، واستحقاقات الوضع المتقدم. كل ذلك يلقي على الحزب باعتبار وضعه الجديد مسؤولية الانتقال من وضع الدفاع المحكوم بالهواجس الهوياتية إلى وضع الفاعل في الحوار من أجل تطوير منظومة حقوقية عالمية تشاركية وليس منظومة متمركزة حول رؤى غربية إلحاقية.
4. إن ذلك يفرض الانتقال من وضع الدفاع إلى امتلاك زمام المبادرة على مستوى التحديث والدفاع عن القيم الكونية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان في نطاق منظور إنساني متوازن لاعتبارات متعددة منها:
- أن السياق التاريخي اليوم وأوضاع الاستبداد السياسي والاجتماعي والتخلف الثقافي ما تزال تلقي بثقلها على مجتمعاتنا العربية الإسلامية وتحول دون تحقيق نهضتنا التي طال انتظارها في عالمنا العربي الإسلامي، منظور متحرر من الهيمنة والمركزية الغربية الإلحاقية.
- الحاجة التاريخية إلى قطع الطريق على التأويلات المتطرفة لقيم الحداثة وما بعد الحداثة، تلك التأويلات المغرقة في الليبرالية والعدمية القيمية. فضلا عما تثيره تلك التأويلات من ردود فعل متطرفة في الجهة الأخرى تتحول إلى عائق في التحديث والتعاطي مع الجانب المشرق من الكسب التاريخي الإنساني في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- أن عددا من توجهات الاستبداد والتحكم ومراكز مقاومة التغيير، وفلول بعض التوجهات الفكرية والإيديولوجية العدمية قد أصبحت تتحصن في مقاومة الإصلاح بشعارات براقة من قبيل الخطر على الحريات الفردية والجماعية ومكاسب حقوق الانسان في ظل حكم الأحزاب السياسية التي تنطلق من المرجعية الإسلامية. إن فلول التحكم أبعد ما تكون عن الغيرة في الدفاع عن الحقوق، وأبعد ما تكون صدقا حين تتباكى على قيم التشاركية، فليس ذلك إلا صورة جديدة من صور العودة إلى منطق التحكم بتوظيف شعارات صحيحة لمقاصد غير سليمة.
5. يستمد حزبنا أصوله الفكرية وأسس مشروعه المجتمعي من المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع المغربيين ومن الرصيد الحضاري للمغرب وقيمه الثقافية الغنية متعددة الروافد التي انخرطت في إطار حركة تاريخية وحضارية خلاقة كونت معالم الشخصية المغربية.
ونعتبر أن الدين الإسلامي يشكل أسمى الثوابت المكونة للهوية الوطنية، باعتباره إطارا مستوعبا منفتحا على كافة مكوناتها الوطنية، كما أن عطاءه التاريخي قد اغتنى بإسهام مختلف المكونات الثقافية للشخصية المغربية. يشكل هذا المعطى حقيقة تاريخية عميقة ومتأصلة في بنيان الدولة والمجتمع المغربيين، وهو المعطى الذي جاء دستور يوليوز 2011 كي يؤكده ليحسم أي مكابرة تسعى إلى تجريد الهوية الوطنية من هذا المكون المرجعي الأساسي. فقد جاء في ديباجة الدستور ما يلي: “تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية والاختيار الديمقراطي”.
6. يؤكد حزبنا على ما ورد في كافة وثائقه المرجعية وما ورد أيضا في أطروحة النضال الديمقراطي. فحزبنا ينطلق في فهمه للإسلام من نفس الرؤية المنفتحة التي شكلت عنصر القوة في التجربة التاريخية والحضارية للأمة، رؤية تؤمن بالتنوع والتعدد والتعايش بين الديانات وحرية العقيدة، واعتبار قاعدة المواطنة أساس بناء الدولة والمجتمع.
إنها الوسطية التي ما فتئ الحزب يؤكد عليها انطلاقا من أن الأمة في عموم مسيرتها كانت أمة وسطا، وأن الغلو والتطرف كانا وسيظلان شذوذا عن الاتجاه الغالب فيها، وهو ما يتأكد أكثر بالنسبة للشعب المغربي الذي تعتبر ظاهرة الغلو الديني والتطرف الفكري العلماني والتطرف السياسي ظواهر طارئة عليه ولا تمثل توجهه الأصيل.
7. وحيث إننا ننطلق في فهمنا للإسلام من أنه مبادئ وأحكام ومقاصد يتم تنزيلها على أرض الواقع من خلال كسب بشري متغير، وأن كل جيل مطالب بأن يعيش تجربته الخاصة في الإسلام وبتجديد فهمه له واستنباط ما يلزم من الأحكام التي تتناسب مع مقاصده، فإن التجديد المتواصل ليس شرطا في المعاصرة فحسب بل هو أيضا شرط في الأصالة، إذ لا محافظة على الثوابت إلا من خلال فهم متجدد للديني، وبالتالي فالتجديد إذ يراعي الثوابت التي حسم فيها الشرع، ينبغي أن يتوجه إلى الفضاء الأوسع المرتبط بالواقع لإبداع الاختيارات الملائمة التي من شأنها إصلاح أحوال الناس ورعاية مصالحهم وتطوير النظم السياسية والاقتصادية وفق مبادئ العدل والخير في تفاعل مع عطاءات الكسب البشري.
8. يؤكد حزب العدالة والتنمية من جديد على ما سبق أن تبناه في مختلف وثائقه المرجعية من أنه حزب سياسي مدني ذو مرجعية إسلامية له برنامج سياسي مدني يعمل على تطبيقه وفق القواعد الديمقراطية، ويجيب على الأسئلة المطروحة سياسيا باعتبارها من قضايا تدبير الشأن العام، إنه يسعى إلى الإسهام في تدبير الشأن العام من قبل مواطنين مدنيين ذوي خبرة في الميدان وفق القواعد الديمقراطية.
بناء على ذلك فإن المجال الأساس لاشتغال الحزب هو مجال تدبير الشأن العام، بما يعنيه ذلك من تأكيد على التمييز بين مجال الاشتغال السياسي وأدواته وخطابه. ومجال اشتغال الحقل الديني والدعوي يجب ألا يفهم منه الفصل التام بين الدين والسياسة.
9. وبناء على ذلك فإن العمل السياسي في تصور حزبنا هو عمل تنافسي تداولي بما تقتضيه نسبيته واختياراته. وبالتالي فإن انطلاقنا من المرجعية الإسلامية لا يلغي تعدد الاجتهادات والاختيارات، ولا يصادر حق الآخرين في العمل السياسي، في ظل تعددية سياسية وتنافسية بين البرامج السياسية المختلفة ضمن الإطار الدستوري للأمة ووحدة مرجعيتها وثوابتها الجامعة كما حددها الدستور.
10. والتأكيد على أن مجال اشتغال الحزب هو المجال السياسي وتدبير الشأن العام لا يعني عدم اهتمام الحزب بقضايا المرجعية الإسلامية، فالتجارب السياسية والحزبية في أعرق الديمقراطيات في العالم تؤكد عودة قضايا المرجعية وقضايا الهوية والقضايا الأخلاقية إلى ساحة العمل السياسي. إضافة إلى ذلك فإن استلهام العمل السياسي للمرجعية الإسلامية سيجعلها منسجمة مع ثقافة المجتمع وقيمه مما سيسهم في رفع درجة تفاعل المواطن وانخراطه في عملية الإصلاح السياسي، فضلا عن مد السياسة بقوة تخليقية تكون من عوامل تحصينها من الوصولية والانتهازية والارتزاق والفساد في تدبير الشأن العام.
11. على أن الاشتغال على قضايا المرجعية والهوية وجب أن يتم ضمن الاشتغال بأدوات الخطاب السياسي، أي باعتبارها من قضايا تدبير الشأن العام مما يقتضي التركيز على مقاربتها تشريعيا ورقابيا وترجمتها إلى إجراءات عملية واقعية في إطار برامج سياسية تطرح ديمقراطيا ضمن المؤسسات المنتخبة ذات الصلاحية.
12. يستند هذا التصور على فهم وظيفي للعلاقة بين مجال الدين والسياسة وبين الدين والدولة، حيث إنه إذا كان من غير الوارد تبني تصور علماني متطرف للعلاقة بينهما سواء بالنظر إلى طبيعة الدين الإسلامي ومقاصده وأحكامه التي لها صلة في العديد من الجوانب بالحياة العامة والعلاقات الاجتماعية أي بعلاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالجماعة والسلطة، ويتضمن عددا من القيم التي لها صلة بتلك العلاقات من قبيل قيم العدل والمساواة والمشاركة والاهتمام بالشأن العام، أو بطبيعة الدولة المغربية وتركيبة المجتمع المغربي حيث يشكل الدين مكونا أساسا في الثقافة والنظام الاجتماعي ومن ثم حيث تكون الدعوة إلى الفصل المطلق بين الدين والدولة أو الدين والسياسة دعوة شاردة ولا تتناسب مع الواقع المغربي.
13. تبعا لذلك ومن هذا المنطلق، وبالنظر إلى ما قرره الدستور من أن الدولة المغربية دولة إسلامية، ومن أن الأمة تستند في حياتها العامة على ثوابت جامعة على رأسها الإسلام، وبناء أيضا على الرصيد المتراكم للتجربة الإنسانية التي تبين أن الفصل المطلق بين المجالين والعلمانية الشاملة ما هي سوى حالة من حالات العلمانية والتي لا تشكل قاعدة في التجارب الغربية نفسها، فإننا نرى في حزب العدالة والتنمية أن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة، بين الدين والدولة ليست هي الفصل المطلق، وليست هي التماهي المطلق بينهما فالدين ينبغي أن يكون حاضرا في السياسة كمبادئ موجهة وروح دافعة وقوة جامحة للأمة. لكن الممارسة السياسية مع الرغبة في ذلك هي ممارسة بشرية نسبية قابلة للخطأ وبالتالي لا ينبغي إضفاء طابع القداسة عليها.
14. يترتب على ذلك أننا ننظر إلى الدولة باعتبارها دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، دولة يحكمها القانون، مصدره الأسمى الشريعة الإسلامية في معناها الشامل الذي يتضمن العقيدة والأخلاق والأحكام، أي باعتبارها مجالا لعمل المجتمع بأسره ولا يقتصر على سلطة الدولة أو سلطة القانون، والتي لا ينبغي فهمها فهما مشوها يختزلها في نظام العقوبات وإنما في أحكامها ومقاصدها القائمة على إقامة العدل والمساواة بين البشر وبين النساء والرجال، وفي قيم الشورى والديمقراطية وضمان حق المواطنين جميعا في الحياة الحرة والكريمة، وقانون مرجعيته العليا المرجعية الإسلامية والمعايير الكونية للحقوق والحريات المتعارف عليها عالميا والمقررة دستوريا وصياغته صياغة بشرية وضعية تتغير بتغير الظروف والأحوال وبتطور مع تطورات الحياة البشرية. وهو قانون يقع باستمرار تحت الرقابة القضائية الدستورية لضمان ملاءمته مع القواعد الدستورية للملكة، وتحت الرقابة البرلمانية من أجل ضمان حسن تنزيله من أجل جعله في خدمة الأهداف التي وضع من أجلها. أما تطبيق القانون وأحكامه فهو من صلاحيات السلطة التنفيذية وحدها، ولا يجوز للأفراد العاديين أن يباشروها.
15. ويترتب على ذلك إقرار مبدأ عدم الإكراه في العقيدة ومبدأ حرية الإبداع وحماية الحريات الفردية والجماعية: انطلاقا من قاعدة “لا إكراه في الدين” التي هي قاعدة ذهبية قوامها أنه لا يجوز ولا يمكن اللجوء إلى أي شكل من أشكال الإكراه في الدين عقيدة وشريعة وأخلاقا، وأن هذه القضايا تقدم بالأساس من خلال الإقناع والاقتناع، وأنها مجال للضمير والفكر والوجدان وليست مجالا لسلطة الدولة أو إكراهات القانون، فإنه من باب أولى أن يشمل هذه القاعدة مجال الالتزام الديني حيث لا إكراه على العبادات، ومجال الثقافة حيث لا إكراه في الفن والإبداع، والسلوك اليومي للمواطن حيث لا إكراه في الزي واللباس.
وبناء على ذلك كله فإن الإكراه يتنافى مع التصور الإسلامي للدين باعتباره إيمانا واقتناعا داخليا، وأنه لا مجال للسيطرة على العقل والوجدان، ” فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر”، ولا مجال أيضا لتتبع ضمائر الناس وسلوكهم اليومي من خلال إقامة شرطة للأخلاق أو تفتيش في الضمائر.
16. غير أن هذا لا يعني الإقرار بمفهوم شاذ للحرية الفردية لا يوجد إلا في أذهان بعض المتطرفين من العلمانيين العرب الذين لم تعد لهم إلا قضية أساسية مفادها أنه يمكن باسم الحرية الفردية لفرد أو لمجموعة أن يفرضوا استبدادهم الفكري والسلوكي على الأغلبية الساحقة من المجتمع، استبداد سعى إلى مصادرة حق الجماعة والدولة في أن يكون لها نظام عام وقيم مشتركة تشكل أساس عيشها المشترك، والقوانين التي تعين حدود الحرية الفردية وبداية المشترك، ويسعى إلى إسقاط حق الجماعة في أن تضع لها القواعد الحامية للنظام العام من خلال مؤسسات شرعية منتخبة.
17. وعلى عكس هذا التصور الشاذ لمفهوم الحرية فإن التراث الحقوقي العالمي ودساتير الدول الديمقراطية تجمع على الملاءمة بين مبدأ الحرية ومبدأ المسؤولية، بين الحرية الفردية وبين مقتضيات النظام العام، وأن للقانون أن يحد من الحرية من أجل حماية حريات الآخرين وحياتهم الخاصة والنظام العام والصحة العامة، مثلما ينص على ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كما جاء في مادته 29 التي تقرر: ”يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير واحترامها لتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي”، ونجد نفس المعنى الوارد في الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية سنة 1789 في مادته الرابعة والخامسة ونفس الشيء في عدد من الدساتير الأوربية المتقدمة مثل الدستور الإسباني والدستور الإيطالي والدستور السويسري.
18. وعلى غرار تصورنا لمفهوم الحرية الذي يزاوج بينها وبين المسؤولية ويضبطها بضابط القانون كما تفعل كل الأمم المتحضرة، يقدم حزبنا تصورا خلاقا للعلاقة بين الكونية والخصوصية. يرفض حزبنا المحاولات التضليلية التي تسعى باسم الحرية إلى إلزام مجتمعاتنا الإسلامية بتضمينات فلسفية وقيمية وإيديولوجية لا تلزم سوى المجتمعات التي نشأت ضمن سباقاتها التاريخية والحضارية الخاصة.
فقد راكمت البشرية وتوافقت عبر تاريخها الطويل على عدد من القيم الإنسانية التي لم تعد ملكا للشرق أو الغرب، أو لهذه المجموعة من الدول أو تلك ومنها قيم العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية والحرية والحق في الحياة والحق في التنقل والحق في التملك والحق في التعبير عن الرأي وحرية المعتقد وهلم جرا.
وفي كل هذه القيم يوجد قدر كبير من الاتفاق حتى أن المتأمل يكاد يجزم أن مساحة التقاء مضامين خطبة الوداع مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تكاد تكون شبه كلية رغم اختلاف الأزمنة واختلاف المرجعيات.
19. غير أن هذه المساحة الواسعة من الالتقاء لا تنفي وجود مجالات أخرى بقيت غير مشمولة بالتوافق. وهذه المجالات الأخيرة لا تزال قائمة ليس بين دول ذات مرجعيات ثقافية وحضارية مختلفة كما هو الشأن بين الدول الغربية والدول الإسلامية، بل إنها قائمة بين دول تنتمي إلى نفس المرجعية الحضارية، بل أحيانا داخل نفس الدول كما هو الشأن مثلا بالنسبة للموقف من قضية الإجهاض.
20. وخلافا لبعض الإدعاءات التي تقدم فهما مغلوطا لمفهوم كونية حقوق الإنسان وجب التأكيد على أن الشرعية الدولية والقانون الدولي قد حفظا الحق في الاختلاف والتنوع والحق في الخصوصية من خلال التنصيص على عدد من قواعد المعاهدات الدولية.
- ما نصت عليه ديباجتها من أن مبادئ حرية الإرادة، وحسن النية، وقاعدة العقد شريعة المتعاقدين معترف بها عالمياً، مما يدل على أن الانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات يتم ضمن سيادة الدول.
- التنصيص على مفهوم التصديق كحق للدول مع تحديد المصطلح تحديدا دقيقا في المادة 2 من الاتفاقية حيث جاء فيها بالحرف: ” يقصد بـ “التصديق” و”القبول” و”الموافقة” و”الانضمام”، الإجراء الدولي المسمى كذلك، والذي تقر الدولة بمقتضاه على المستوى الدولي رضاها الالتزام بالمعاهدة.
- الإقرار بحق الدول في التحفظ الذي عرف في الفقرة (د) من نفس المادة على الشكل التالي:
- ” يقصد بـ “تحفظ” إعلان من جانب واحد، أيا كانت صيغته أو تسميته، تصدره دولة ما عند توقيعها أو تصديقها أو قبولها أو إقرارها أو انضمامها إلى معاهدة، مستهدفة به استبعاد أو تغيير الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة من حيث سريانها على تلك الدولة”.
- تضمين الاتفاقية إمكانية التعبير عن رضا الدولة الالتزام بمعاهدة ما بالتصديق على الاتفاقية في عدد من الحالات منها الحالة التي تنص الاتفاقية نفسها على هذا المقتضى أو إذا اشترطت الدولة التصديق أو وقع ممثلها بشرط التصديق أو عبرت الدولة أثناء المفاوضات عن مثل هذه النية وهو ما تفصل فيه المادة 14 من اتفاقية فيينا التي تتضمن كثيرا من الإجراءات التفصيلية التي تسير في هذا الاتجاه وليس المجال مجال وقوف عندها.
21. يتأكد من خلال ذلك أن التوافق على حقوق الإنسان لا يعني وجود تصور مطلق ونهائي مغلق حول كافة القضايا أو التأويلات ومن ثم يبقى هناك قدر موضوع تباينات ثقافية وإيديولوجية، مما يعني أنه إن كان هناك قدر كبير من التوافق حول القيم الحقوقية الكبرى، فإنه هناك قدر آخر هو الأقل دون شك يرجع إلى السياقات الحضارية والثقافية والدينية.
كما يتأكد من جهة أخرى أنه أحيانا باسم كونية حقوق الإنسان تسعى دول كبرى أو توجهات سياسية أو إيديولوجية إلى فرض قراءتها وتأويلاتها الخاصة لقيم وحقوق الإنسان في خرق سافر لأحد أعظم مقومات حقوق الإنسان الذي هو حق الاختلاف.
22. الدستور المغربي يقر بالكونية مع حفظ الحق في الاختلاف. والواقع أن الدستور المغربي اليوم قد حسم بشكل واضح في هذا الموضوع، وتوصل إلى تركيب يجمع بين مقتضى تقرير حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا وبين مقتضيات التلاؤم اللازم بينها وبين ثوابت البلاد ومقوماتها الحضارية، علما أن دساتير الدنيا تضمنت مقتضيات شبيهة بذلك. فقد نصت ديباجة الدستور على ما يلي: ”وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا”.
كما جاء في نفس الديباجة أيضا: ”جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة”.
وقد بين الدستور في الفصل الأول منه ماهية الثوابت الجامعة التي تستند عليها في حياتها العامة حيث نص بوضوح على ما يلي: ”تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي”.
وبنفس المنطق الذي يسمح به القانون الدولي وتنص عليه اتفاقية ” فيينا” جعل التزامه بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة كما تنص عليها الاتفاقيات الدولية رهنا بالمصادقة عليها في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة حيت ينص الفصل 19 بوضوح على ما يلي: ”يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”.
وذلك يعني أنه لا تعارض بين الإعلان عن الالتزام بمنظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وكما نصت عليها الاتفاقيات الدولية ذات الصلة وبين المنظومة الدستورية والقانونية الوطنية، ما دامت الشرعية الدولية تفسح مجالا للخصوصية الثقافية والحضارية وتضمن الاتفاقيات الدولية الانضمام بطواعية كليا أو جزئيا، وتضمن الحق في التحفظ، وهو ما يعني أن الاحتجاج بالكونية يكون في كثير من الأحيان احتجاجا مغالطا، مع التنويه أننا لسنا من أولئك الذين يستخدمون حجة الخصوصية من أجل الإجهاز على حقوق الإنسان المتعارف عليها كونيا حقا وصدقا.
23. لكن برجوعنا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولإعلانات الحقوق في عدد من دساتير العالم ومنها دساتير أوروبية، نجد أن الأمر مختلف جدا.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 29 يؤكد ما يلي:
• ”على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نمواً حراُ كاملاً.
• يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي”.
24. إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا والعلاقة بين الحرية الفردية وحقوق الآخرين:
وهو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية في جلساتها أيام 20، 21، 23، 24 و26 غشت 1789 بعد شهرين من النقاشات في إعلان قطيعة مع النظام القديم بعد الثورة الفرنسية وقبل سقوط الملكية. وكان هذا الإعلان سباقا إلى التأسيس لفكرة الطابع غير المطلق للحرية الفردية، كما يقرر إمكانية الحد من تلك الحريات ولكن من خلال القانون خاصة إذا كانت ممارستها تمس بالنظام العام، حيث جاء في الإعلان ما يلي:
• المادة الرابعة: ”كل الناس أحرار والحرية هي إباحة كل عمل لا يضر أحداً. وبناء عليه لا حد لحقوق الإنسان الواحد غير حقوق الإنسان الثاني. ووضع هذه الحدود منوط بالقانون دون سواه”.
• المادة الخامسة: ”ليس للقانون حق في أن يحرّم شيئا إلا متى كان فيه ضرر للهيئة الاجتماعية، وكل ما لا يحرمه القانون يكون مباحاً فلا يجوز أن يُرغم الإنسان به”.
25. الدساتير الأوروبية تؤكد أن الحريات الفردية غير مطلقة ولا يجوز أن تؤدي إلى المساس بالمجتمع:
• الدستور الإسباني والطابع غير المطلق للحرية الفردية: ”حرية المعتقدات الدينية والمذاهب الإيديولوجية مضمونة ولا يمكن أن توضع لها قيود إلا القيود القانونية التي من شأنها حماية النظام العام” الفصل 16-1. كما يقر الدستور الإسباني في الفصل 20-4 أن الحريات المشار إليها في الدستور ( حرية التعبير، حرية التأليف …) مشروطة باحترام الحقوق ومنها الحق في حماية الشرف والخصوصية وحماية الشباب والطفولة.
• يقر الدستور الإيطالي أيضا في فصله الثامن حرية المعتقدات الدينية أمام القانون. ويقر أن المعتقدات الدينية غير الكاثوليكية لها الحق في التنظيم حسب أنظمتها الخاصة شرط عدم التعارض مع النظام القانوني لإيطاليا.
• يقر الدستور السويسري في الفصل 36 محددات الحقوق الأساسية حيث إمكانية الحد من الحقوق الأساسية ولكن على أساس القانون، وأن كل حد من هذه الحريات وجب أن يتم بقانون. وتؤكد نفس المادة على أن أي تقييد لحق أساسي وجب أن يكون مبررا بالصالح العام أو بحماية الحقوق الأساسية للآخرين.
26. ويطول بنا المقام لو ذهبنا نستعرض ما تضمنته دساتير دول متقدمة في هذا المجال، وبعض التشريعات التي وضعتها من أجل حماية ما تعتبره “فضاء عاما”، وما قضية منع الحجاب في الفضاءات العامة التي أثارت جدلا كبيرا في فرنسا وعدد من الدول الأوروبية عنا ببعيد، بغض النظر عن مدى صوابية هذا التوجه، ولكن كي نؤكد أن لا وجود لمفهوم للحرية الفردية المطلقة التي لا حدود ولا ضوابط لها.
وبناء عليه فإنه من خلال القانون، والقانون وحده يمكن الحد من الحريات الفردية في الفضاء العام، إذا قدرت المؤسسات التشريعية التي تمثل السيادة الشعبية أن بها مساسا بحرية الأفراد الآخرين أو بالنظام الأخلاقي العام للمجتمع، ولا يجوز بالتالي القول إن هذا حجر على الحرية الفردية، فالمقابل لذلك هو استبداد الأقلية بدعوى ممارسة الحرية الفردية وبدعوى حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها.
VIII. في التوجهات العامة لمشروعنا التنموي
إن انتقال الحزب من مرحلة النضال الديمقراطي من موقع المعارضة، إلى الإشراف المباشر على تدبير الشأن العام الوطني من موقع رئاسة الحكومة، يفرض بلورة مشروع تنموي متكامل ينطلق منه حزبنا في بلورة البرامج والسياسات العمومية وفي مراقبة السياسات المعتمدة.
غير أن سياق الأطروحة، أطروحة المؤتمر الوطني السابع لا يسمح سوى باستدعاء التوجهات العامة للمشروع التنموي في علاقته بالمرحلة وبموقع الحزب على أن يبقى التفصيل من شأن أوراق أخرى.
وتسعى هذه الأطروحة إلى تحديد تلك التوجهات استحضارا لأزمة النموذج الاقتصادي الحالي، واستحضارا لمؤهلات المغرب وأسسه الاقتصادية والمالية وأبعاده المجالية.
1. في منطلقات المشروع التنموي
تنطلق الرؤية التنموية للحزب من ضرورة بناء اقتصاد متكامل ومندمج يقوم على تشجيع إنتاج الثروة والحرص على العدالة في توزيعها حسب الجهد المبذول والحاجة القائمة، ويهدف إلى سد الحاجيات الأساسية للمواطنين، ويقيم التوازن بين القطاعين الخاص والعام في إطار يخدم المصلحة الوطنية ويمكن الجميع من الإسهام في دورة الإنتاج والانخراط في مسلسل التنمية، ويقوم على التدبير العقلاني والمناسب للثروات وعلى التوزيع العادل لها بين الأفراد والفئات وبين الأقاليم والجهات وبين البادية والمدينة، ويمكن ذوي الدخل المحدود من الاستفادة من ثمار النمو.
كما تستند على المبادئ الأساسية المتعلقة بالحكامة الاقتصادية والمالية، ومراجعة دور الدولة ومؤسساتها الرئيسية على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق العدالة والإنصاف على المستويين الجهوي والوطني.
ويبقى تلازم البعدين الاقتصادي والاجتماعي من أهم مرتكزات صياغة أسس النموذج التنموي المنشود، في ظل بناء ديمقراطي نابع من التحولات السياسية الحالية، فلا تنمية بدون حرية وكرامة وديمقراطية، ولا عدالة في ظل الاستبداد ببعديه السياسي والاقتصادي.
وتتحدد منطلقات تصورنا للتنمية في ما يلي:
1-1. الإنسان أساس التنمية
إن التنمية في منظور حزب العدالة والتنمية تتعدى المفهوم التقليدي إلى مفهوم أبعد مدى وأعمق دلالة، يرتكز على الإنسان كأساس لكل إصلاح منشود، ومن تم نرى أن التنمية وجب أن تمس الإنسان في كافة أبعاده الروحية والفكرية والسلوكية، فذلك هو المنطلق لتحقيق التنمية الشاملة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن مقاربة حزبنا لمفهوم التنمية مقاربة تتقاطع فيها أبعاد المرجعية والهوية والثقافة مع الأبعاد المالية والاقتصادية والاجتماعية، على اعتبار أن الإنسان هو غاية التنمية وأساسها في نفس الوقت. وهي المقاربة التي تؤكدها الدراسات الحديثة التي تعتبر الموارد البشرية موارد إستراتيجية في كل عمل تنموي.
1-2. الانفتاح الاقتصادي
وهذا الانفتاح يجد مبرراته الموضوعية أولا في الموقع الاستراتيجي للمغرب الذي ظل على مر التاريخ منفتحا اقتصاديا وتجاريا على محيطه المتوسطي والأوروبي والإفريقي. يضاف إلى ذلك اعتبار واقعي يشهد له التطور المعاصر الذي أصبح من غير الممكن معه أن ينمو اقتصاد مجتمع من المجتمعات في انغلاق على نفسه فضلا على مراهنة المغرب منذ الثمانينات على خيار الانفتاح الاقتصادي بعد عقدين من تدخل الدولة كفاعل اقتصادي.
والانفتاح الاقتصادي لا يمكن أن يؤتي ثماره المرجوة دون تأهيل للنسيج الاقتصادي الوطني بما يجعله قادرا على تنويع الإنتاج وتحسينه ومن تم تأمين قدرته على المنافسة التي يفرضها اقتصاد السوق والتجارة الحرة.
1-3. المبادرة الحرة والملكية الفردية المواطنة
يبين التأمل في التجارب الإنسانية في المجال الاقتصادي تأرجحها بين الخيار اللبيرالي المطلق القائم على إعطاء الحرية غير المحدودة للفرد، وللملكية الفردية ولاقتصاد السوق وما أفضى إليه ذلك من ليبرالية متوحشة، وبين الاقتصاد الموجه الذي يكبل المبادرة الفردية ويقتل المنافسة ويقود إلى الشلل الاقتصادي دون أن يتمكن أي من الخيارين تحقيق التوازن المنشود.
وفيما يتعلق بالمغرب فإن الدستور المغربي قد سعى إلى التأكيد على تحقيق التوازن حيث ضمن حق المِلكية وحرية المبادرة الحرة والشريفة، والتأكيد على أن ممارسة هذا الحق ينبغي أن تأتي في سياق التنمية الاقتصادية المتوازنة بين حق الفرد وحق المجتمع، وأن الحد من هذا الحق يخضع لقواعد واضحة وشفافة. فنزع الملكية يجب أن يتم تقييده بالمصلحة العامة الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى هذا الأساس يرى حزب العدالة والتنمية أن إعادة تعريف المصلحة العامة يبقى أولوية في سياق ضمان المبادرة الفردية الاقتصادية وحرية التملك الذي يعتبر القاعدة أمام استثناء الحد منها.
إن تدقيق مفهوم المصلحة العامة وتحديد مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية بشكل دقيق، يعتبر أحد الضمانات الأساسية لحق الملكية بمختلف مستوياته.
وإذا كانت حرية المبادرة الاقتصادية تعد الأصل في نسقنا الاقتصادي، فإن حماية هذه المبادرة وتأطيرها القانوني والعملي يعتبر ضمان الموازنة بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة.
1-4. الشراكة الاقتصادية
إذا كان لمبدأ الشراكة بعد عمودي يرتبط بدعم التوجه إلى ربط علاقات اقتصادية وإقامة شراكات حقيقية قائمة على رعاية المصالح المشتركة والاحترام، فإنه من اللازم العمل على تنويع الشركاء الاقتصاديين مما يعني الانخراط ودعم كل أشكال التعاون الاقتصادي الجهوي وتدعيم علاقات التعاون الاقتصادي مع البلدان العربية والإسلامية وبلدان العالم الثالث.
1-5. إعادة الاعتبار لقيمة العمل
وذلك باعتباره أساسا للكسب والتملك المشروع والحث على الاستثمار ومحاربة الاكتناز الذي يمثل خطرا على الدورة الاقتصادية ويحرمها من مصادر التمويل الضرورية والعمل على تشجيع المخاطرة بالاشتراك في النشاط الاقتصادي سواء بالمال أو العمل على أساس أن الخراج بالضمان أي أن العائد لا يحل إلا بتحمل المخاطرة.
2. في معالم النموذج الاقتصادي والمشروع التنموي
2-1. الدولة في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية
نقدر أنه يظل للدولة دور أساسي في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، بما تملكه من آليات قانونية ومالية ومؤسساتية، تسمح بمواكبة التحولات الاقتصادية ومعالجة الاختلالات الناجمة عن سنوات من النموذج التنموي السائد.
ونرى في هذا الصدد أن من المهام المنوطة حصريا بالدولة مهمة التخطيط الاستراتيجي التنموي، مما يقتضي أن تكون لها رؤية تنموية استراتيجية، تقوم بتنزيلها في شكل استراتيجيات قطاعية، مع ضمان التقائية هذه المخططات.
كما ينبغي أن يتجاوز دور الدولة دور الدركي المراقِب، وفي نفس الوقت ينبغي أن لا يتماهى مع دور الفاعل الاقتصادي أو المستثمر المباشر في القطاع الخاص، وتكمن أهمية دورها في استشراف آفاق التطور الاقتصادي وفي قدرتها على إطلاق محركات النمو الاقتصادي عبر عدة آليات، تبدأ من دعم الاقتصاد المنتج وتصل إلى تشجيع الطلب الداخلي والمراجعة الآنية لسياسة التصدير بما يحقق التوازنات المالية والنقدية.
كما تكمن أهمية مؤسسات الدولة في مواكبة التحولات الاقتصادية والمالية، الوطنية والدولية، وإيجاد الأسس القانونية والإجرائية لتمكين المقاولة المغربية من مواجهة التحديات، وضمان تنافسيتها، وخلق مناصب الشغل القارة والدائمة.
إن تأكيد حزب العدالة والتنمية على المبادرة الحرة ودور القطاع الخاص ليس معناه إلغاء دور الدولة ومسؤوليتها في مجال تنشيط الاقتصاد ولا إلغاء مسؤوليتها الاجتماعية، أو إلغاء دورها كفاعل اقتصادي في القطاعات الإستراتيجية التي قد لا يهتم بها القطاع الخاص.
2-2. تعزيز التوازن الاقتصادي والمالي مع مراعاة التوازن الاجتماعي
إذا كان التوجه الأساسي لحزب العدالة والتنمية يعتبر الإنسان موضوع وهدف التنمية وأساسها وغايتها، فإن الموازنة بين الإكراهات الاقتصادية والمالية ومتطلبات التنمية الاجتماعية تعتبر قاعدة في صياغة الرؤية التنموية للحزب. فالتوازنات الماكرو اقتصادية ليست هدفا في حد ذاتها، وإنما آلية لتوسيع التوازن ليشمل مختلف المحاور والقطاعات الاقتصادية والمالية، ويرى حزب العدالة والتنمية أن هذه التوازنات الاقتصادية يجب أن توازيها التوازنات الاجتماعية التي تضمن التوزيع العادل للثروة، والاستفادة المنصفة من ثمار النمو قطاعيا ومجاليا وفئويا.
ويعتبر الدعم الاجتماعي لمختلف الفئات من أهم الآليات التي تحقق التوازن بين خلق الثروة وضمان الاستفادة الواسعة من ثمارها، وفي هذا الصدد يؤكد حزب العدالة والتنمية على ضرورة توجيه الدعم العمومي للفئات التي تستحقه، بما يضمن تحقيق الهدف الأساسي من الدعم.
ويعتبر الحزب أن الاستهداف المباشر باعتباره سياسة عمومية اجتماعية ذات أساس اقتصادي ومالي أهم آليات تحقيق العدالة والإنصاف في الاستفادة من ثمار النمو، وإذا كانت الحكومة التي يقودها الحزب بدأت بالفعل في تنزيل إحدى آلياته عبر تعميم التغطية الصحية، فإنه يرى أن إصلاح نظام المقاصة يسير في هذا السياق، ويعتمد آلية الاستهداف المباشر عبر سياسات اجتماعية أخرى تضمن الاستفادة الفئوية أو القطاعية أو المجالية.
2-3. دور الدولة
يترتب على ذلك أن دور الدولة في مجال التنمية الاقتصادية يبقى حاضرا وضروريا خاصة في ظل وضعية لا يزال فيها دور القطاع الخاص هشا، ويمكن تحديد دور الدولة فيما يلي:
- دور التنشيط الاقتصادي
وهو دور لا يتأتى إلا إذا تولت الدولة تهيئة الشروط اللازمة للإقلاع الاقتصادي والاجتماعي. ومن بين هذه الشروط العمل على توفير البنيات والتجهيزات الأساسية للتنمية الاقتصادية باعتبارها شرطا من شروط توفير تنمية شاملة ومستديمة، وبما يقتضيه ذلك من رفع استثمارات الدولة في هذا المجال وتعبئة كل الموارد الوطنية لهذا الغرض. وينبغي أن يكون من مهام الدولة أيضا العمل على تهيئ مناخ ملائم للاستثمار وذلك بتبسيط المساطر وإصلاح القوانين وتذليل الصعوبات في وجه الاستثمار.
- معالجة الاختلالات الاجتماعية
وذلك بمراقبة المجال الاقتصادي والحرص على شروط المنافسة النزيهة ومنع الاحتكار وإحداث التوازن بين الفئات الاجتماعية وخاصة تلك التي لم تستطع أن تندمج في سوق الشغل. كما يقتضي وضع سياسات شمولية من أجل الحد من مظاهر التفاوت الاجتماعي وإعطاء الأولوية لسياسات تنموية واجتماعية لفائدة الجهات والفئات الأكثر تضررا، وضع سياسات تضامنية تمكن من تنزيل مبادئ ديننا الحنيف وأخلاقنا الاجتماعية وقيمنا الحضارية في مجال التضامن والتكافل الاجتماعي وحث المجتمع المدني وإفساح المجال له للاضطلاع بدوره في هذا المجال. ومن ذلك أيضا العمل على إخراج الزكاة وتنظيم جمعها وتوزيعها وهو أمر لو تحقق سيمكن من صرف ما لا يقل عن ربع عشر الناتج الوطني الخام في مجال إعادة التوازن الاجتماعي ويدخل في هذا الباب أيضا سن ما هو ضروري من القوانين والالتزامات الكفيلة بتحقيق التضامن الاجتماعي.
- تعزيز الحكامة الاقتصادية وتأمين شروط المنافسة الاقتصادية
إذا كانت الحكامة تعبر عن مجموعة من المبادئ المتعلقة بالشفافية والمحاسبة والديمقراطية وسيادة القانون، فإن تنزيل قواعدها على المستوى الاقتصادي يقتضي توفير البنيات القانونية والمؤسساتية والإجرائية التي تضمن الشفافية في التدبير المالي، والتنافسية الاقتصادية، وتوجيه الاستثمار العمومي ومجهود الدولة لضمان نجاعة وفعالية السياسات الاقتصادية.
فالحكامة الاقتصادية تقتضي إصلاح مناخ الأعمال الذي يعني البدء بإصلاح القضاء وضمان تطبيق القانون وشفافية التدبير العمومي، كما تتطلب توجيه الرأسمال الوطني للقطاعات الاستثمارية المنتجة عوض المضاربة العقارية وغيرها من المضاربات.
- الإسهام في الانتقال من اقتصاد الريع إلى الاقتصاد الحقيقي
إذا كان الريع الاقتصادي يرتبط في جزء منه بالفساد الاقتصادي والاستبداد السياسي، فإن إطلاق نموذج اقتصادي وتنموي جديد يرتبط بمدى القدرة على توفير بنيات اقتصاد حقيقي، منتج للثروة ولفرص الشغل القارة.
وتعتبر محاربة اقتصاد الريع من القواعد الأساسية التي يعتمدها الحزب في إعادة تأهيل المجال الاقتصادي، وجعل الثروة مرتبطة بالعمل وبالإنتاج، وتحويل المجهودات الاستثمارية للاقتصاد الحقيقي الذي يمكن البلد من خلق القيمة المضافة المرادفة للنمو الاقتصادي الوطني.
3ـ القواعد الأساسية للنموذج التنموي في منظور حزب العدالة والتنمية
ينطلق النموذج التنموي كما يتصوره الحزب بالإضافة إلى المبادئ والمنطلقات السابقة من تصور يقوم على ثلاثة قواعد تتمثل أولاها في التركيز على البعد المجالي للتنمية وثانيها في إعادة ترتيب محاور النمو وأولوياته وثالثها في إدماج التمويلات الإسلامية باعتبارها رافدا من الروافد التي يمكن أن تسهم في فتح آفاق للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا.
3-1. تعزيز البعد الجهوي والمجالي للتنمية:
- إن التنمية لم تعد شأنا مركزيا يهم الدولة كشخص معنوي رئيسي، وإنما أصبحت تتعدى المقاربة المركزية التي ثبتت محدوديتها، لتصبح شأنا جهويا ومجاليا.
فالدستور المغربي حسم في شكل الدولة التي اعتبرها ذات “تنظيم لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة”، والجهات والمجالات الترابية يجب أن تساهم في خلق الثروة والقيمة المضافة، وليس فقط توزيع الاستثمارات العمومية بشكل حسابي ضيق على مختلف جهات المملكة.
ويرى حزب العدالة والتنمية أن البعد الجهوي يجب أن يشكل أساس التنمية وأساس تنزيل السياسات العمومية، مما يجعل البعد الترابي والمجالي أحد قواعد المشروع التنموي، وأحد آليات تفكيك المركزة المفرطة للسلطة وللثروة وللقيمة المضافة باعتبارها أساس النمو الاقتصادي.
فالجهات في منظور الحزب هي مجالات تنموية وليست مجرد تجميع للمجالات الترابية، واعتماد النموذج الجهوي يتعين أن يكون ذا أساس تنموي، عبر إحداث مجالات ذات مقومات الحياة وذات القدرة على إنتاج الثروة وإنعاش الاقتصاد والمساهمة في النمو.
3-2.الانسجام الجهوي للسياسات العمومية
إن إدماج البعد الجهوي يعتبر أحد القواعد المحددة لآليات تنزيل المخططات القطاعية وضمان انسجامها الترابي والتقائيتها الموضوعية. فالجهة ليست مجرد مجال ترابي لتنفيذ الاستثمارات العمومية، وإنما تتعدى ذلك لتصبح مجال الالتقاء المجالي للسياسات العمومية، وانسجام المخططات القطاعية مع حاجيات الجهات ومتطلباتها التنموية، وإطارا لضمان فعالية ونجاعة هذه البرامج وتحقيقها لأهدافها التنموية.
3-3. نموذج الجهة ذات التكامل الاقتصادي والتنموي
إن نموذج الجهة التي يتصورها حزب العدالة والتنمية تنطلق من البعد التنموي لتحتضن المحددات السوسيو ثقافية، فالجهوية المتقدمة تتطلب إيجاد مجالات تنموية ذات مقومات الحياة، بحيث تتكامل فيها محركات النمو الاقتصادي، وتمكنها من تحقيق الحد الأدنى من التوازنات الاجتماعية.
وترتبط مهام الجهات واختصاصاتها بشكل وثيق بقدرتها على تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا الصدد يرى حزب العدالة والتنمية أن الجهات بالمغرب يجب أن تكون واسعة ومتعددة الاختصاصات، ولها مقومات حياتها الاقتصادية وبنياتها الأساسية.
وعلى هذا الأساس يرى الحزب أن مشروع الجهوية المتقدمة يجب أن يمكن الجهات من أن تصبح الجهة مجالا لخلق الثروة والقيمة المضافة الأساسية للنمو الاقتصادي، وتصبح مجالات لاستقطاب الاستثمارات وتهيئة البنيات اللازمة لها، عوض أن تبقى في وضع التبعية المفرطة للمركز على المستوى التنموي.
4. مراجعة محاور النمو الاقتصادي
أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية أن تخلي عدد من الدول الغربية عن الاقتصاد الحقيقي لفائدة الاقتصاد المالي والاقتصاد الافتراضي قد جعل بنيتها الاقتصادية هشة وسريعة التأثر بالتقلبات المالية الدولية.
وإذا كان المغرب قد طور محاوره الاقتصادية خلال العقد الماضي، فإن هيمنة القطاع الثالث على اقتصاده جعله سريع التأثر بالأزمة العالمية، خاصة على مستوى الخدمات والسياحة.
وعلى هذا الأساس يؤكد حزب العدالة والتنمية على استثمار المكتسبات المتعلقة بتطوير القطاع الثالث وباستقطاب الاستثمارات في مجال ترحيل الخدمات، ويرى أن تحقيق التنمية المستدامة تتطلب إعادة إطلاق دورة اقتصادية جديدة تحقق توازنا بين مختلف قطاعات ومحاور النمو.
وبالتالي فإن دعم الاقتصاد الحقيقي على مستوى الصناعة والفلاحة يجعله قطاعا رئيسيا وليس مجرد مكمل لباقي المحاور، ويرى حزب العدالة والتنمية أن رفع حصة الصناعة في الناتج الداخلي الخام من شأنه خلق ثروة حقيقية وقيمة مضافة ثابتة تمكن المغرب من خلق فرص الشغل بشكل مضاعف لواقع النموذج الحالي القائم على الخدمات.
و يعتبر الاهتمام بقطاع الفلاحة وبالصيد البحري أحد المحاور الكبرى التي تمكن المغرب من الحفاظ على العمالة المستقرة وتأهيلها ودعمها لتجاوز صعوبات المناخ الاقتصادي والبيئي الوطني والدولي.
وتركيز الحزب على القطاعات المنتجة وعلى محاور الاقتصاد الحقيقي لا ينفي أهمية تطوير القطاع الثالث الذي عرف تطورا كبيرا يجعله من مكتسبات الاقتصاد الوطني، والذي يحتاج بدوره إلى إعادة تقييم في اتجاه تدعيمه بالبنيات اللوجستيكية.
5. إدماج نظام التمويل الإسلامي
يعتبر إدماج طرق التمويل الإسلامي أحد الآليات الأساسية التي تضمن توسيع القطاع المالي المغربي، وتمكن الاقتصاد المغربي من الاستفادة من دينامية المالية الإسلامية، بما تملكه من مؤهلات تنافسية وقدرة على تعبئة السيولة النقدية اللازمة لتمويل القطاعات الإنتاجية.
ويعتبر حزب العدالة والتنمية أن المالية الإسلامية تعد بمثابة آليات داعمة ومكملة لآليات التمويل التقليدية التي يستفيد منها الاقتصاد الوطني، سواء على مستوى التمويل المباشر للاقتصاد الحقيقي، أو على مستوى المساهمة المباشرة في إطلاق دينامية الإنتاج، أو فيما يخص دعم الطلب الداخلي عبر تنويع التمويلات البديلة وتعميمها.
ويرى حزب العدالة والتنمية أن إدماج التمويل الإسلامي في النظام المالي المغربي يجب أن يتم عبر ثلاث مراحل استراتيجية:
5-1. استقطاب الاستثمارات الإسلامية
في انتظار تأهيل المجال المالي والبنكي المغربي، يرى حزب العدالة والتنمية أن هذه المرحلة تقتضي استقطاب الاستثمارات الإسلامية وهي استثمارات البنوك ومؤسسات الاستثمار الإسلامي من أجل استفادة الاقتصاد الوطني من السيولة لدى هذه المؤسسات التي تميل إلى الاستثمار في البيئة الديمقراطية ذات المناخ السليم للأعمال. وتمكن هذه الآلية من الاستفادة المزدوجة للاقتصاد المغربي من السيولة بالعملة الصعبة بما يحقق توازن ميزان الأداءات، والاستفادة من الدينامية الاستثمارية لهذه المؤسسات بما يساهم في النمو الاقتصادي وفي خلق الثروة ومناصب الشغل.
5-2. توسيع المجال المالي والبنكي لاحتضان البنوك الإسلامية
يرى حزب العدالة والتنمية أن هذه المرحلة تعتبر لاحقة للمرحلة الأولى، بحيث تمتلك المؤسسات البنكية الوطنية فرص تداول الاستثمارات الإسلامية وتهيئة بنياتها لاستقبال ودائع مؤسسات التمويل الإسلامي. وهو ما يمكن من ضمان استقرار النظام البنكي التقليدي واستفادته من سيولة مؤسسات التمويل الإسلامي، وبالموازاة مع ذلك تمكين البنوك الوطنية من أفضلية وأسبقية فتح فروع موازية للتعاملات الإسلامية.
5-3. ضخ ودائع البنوك الإسلامية في الاقتصاد الوطني
خلال هذه المرحلة الاستراتيجية يمكن فتح المجال البنكي المغربي أمام الودائع الإسلامية لضخها في الاقتصاد الوطني بشكل مباشر، عبر السماح للبنوك الإسلامية بفتح مقراتها بالمغرب. وتعتبر المراحل الأولى بمثابة حماية وقائية مرحلية ومؤقتة للنظام المالي والبنكي المغربي، حتى يتمكن من هيكلة بنياته الذاتية لاستقبال الاستثمارات الإسلامية والاندماج في الدينامية الدولية لآليات التمويل الإسلامي.
ويمكن خلال هذه المرحلة الاستراتيجية اعتماد نظام مكمل للبورصة، يسمح بإدماج الصكوك الإسلامية وآليات التمويل المباشر للصناعة والفلاحة في السوق النقدية، بما يضمن الاستقرار الإيجابي للنظام المالي المغربي واستفادة الاقتصاد الوطني من قوة المالية الإسلامية.
5-4. بالموازاة مع ذلك، يؤكد الحزب حرصه على تفعيل صندوق الزكاة وجعله جزءا من آليات الموازنة بين الثروة وحقوق المجتمع، ويعتبر تدوير أموال الزكاة واستثمارها أحد آليات خلق مناصب الشغل الاستثمارية والحد من الفقر.
IX. في النموذج التنظيمي
1. إن أهمية التنظيم الحزبي باعتباره أداة استراتجية وأساسية للتفاعل مع البيئة الخارجية للحزب وما يعتمل فيها من تغيرات وتفاعلات لسياقات وازنة ومؤثرة، وهو أيضا أداة الإسهام في المهام والتحديات الكبرى الملقاة على كاهل الحزب مما يستوجب تطوير نظمنا التنظيمية بما يتناسب معها.
وبالرغم من التراكمات الإيجابية لخبراتنا التنظيمية، وبالرغم من أدائنا التنظيمي المعتبر مقارنة بمن حولنا، غير أن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن جوانب من القصور والنقص الذي ينبغي أن نرصده قصد تجويد أدائنا التنظيمي.
1-1. غلبة التدبير السياسي العام على البناء الحزبي وتأهيل الذات الحزبية
لقد عاش الحزب خلال المرحلة السابقة غلبة بينة للتدبير السياسي العام على البناء الحزبي وتأهيل الذات الحزبية، ومَرَدُّ هذا الأمر أساسا إلى قوة التدافع السياسي بالنظر إلى ما عاشه المغرب بشكل عام، وما تعرض له حزب العدالة والتنمية وما فرض عليه من مواجهة، خاصة مع الانتخابات الجماعية 2009 وما تلاها من رغبة جامحة من رموز التحكم، ورغبتهم في تحجيم إسهام الحزب في الشأن العام إلى أبعد مدى ممكن، مما اضطره إلى خوض معارك سياسية قوية بغرض الدفاع عن حقه في الوجود.
لقد كان من الطبيعي أن تتوارى الأولوية التنظيمية بما هي اهتمام بالذات الحزبية وتنمية لها وتقوية لآلياتها، وأن يتم الاكتفاء عوض ذلك بمعالجة الاختلالات التنظيمية الأساسية ومعالجة بعض المشاكل التي همت بعض الهياكل الجهوية والإقليمية، دون أن يصاحب ذلك تأهيل شامل للأداة الحزبية مركزيا ومجاليا بما يؤدي إلى تطوير نوعي لأدائها.
1-2. تدبير الشأن العام الوطني وأثره على البناء الحزبي مركزيا
إن الانتقال من المعارضة إلى قيادة العمل الحكومي من موقع الأغلبية العددية في الحكومة ومجلس النواب، سيكون له بالتأكيد أثرٌ كبيرٌ على الذات التنظيمية، فالسُّنَّة جرت بأن يُنهِكَ التدبيرُ التنظيمَ، ومداراة هذه السُّنَّة أو التقليل من آثارها يقتضي إبداع نظم ووسائل جريئة في تدبير الأداة التنظيمية، كما يقتضي ذلك أيضا الاستفادة من التجارب المتنوعة في هذا المجال بما يسمح من تجاوز آثار استغراق القيادات والأطر الحزبية في تدبير الشأن العام الوطني.
1-3. تدبير الشأن العام المجالي (الجماعات الترابية) وأثره على البناء الحزبي مجاليا
ينسحب ما قلناه على التدبير للشأن الحكومي على تدبير الشأن المحلي، مع الإشارة إلى أن هذا الأمر سيزداد استفحالا مع الاستحقاقات الانتخابية القادمة، وما سيتلوها مما هو متوقع من انخراط كامل للحزب في تدبير الشأن العام المجالي، وخاصة بالنظر إلى عدم كفاية الموارد البشرية.
1-4. عدم كفاية نموذج التنظيم الحزبي الهرمي المركزي
يعتبر البناء التنظيمي للحزب تنظيما مركزيا بامتياز. فرغم وجود هيئات مجالية من المفروض أن تتحمل مسؤولياتها في تدبير مجال نفوذها، غير أن آثارها تبقى محدودة بالنظر إلى صلاحياتها في أنظمة الحزب، وعدم كفاية القيادات الحزبية المجالية، وشيوع ثقافة الاحتكام للمركز إضافة إلى غياب برنامج مركزي للتأهيل والمواكبة للهيئات المجالية، كل هذا أسهم في ضعف فعالية نموذجنا التنظيمي، لم يعد مؤهلا للاستجابة للحاجيات المتزايدة للتأطير وتخريج النخب الحزبية المؤهلة للإسهام في تدبير الشأن العام والتأطير السياسي للمجتمع.
فالنموذج التنظيمي الحزبي الهرمي المركزي، يؤدي تلقائيا إلى إعادة تمركز الاختصاصات والمبادرات في يد الهيئات التنظيمية التنفيذية رغم الصلاحيات المخولة للهيئات المجالية، وضعف الهيئات الوسيطة الكفيلة بتكملة أداء الهيئات التنفيذية، وبطء عملية إفراز وتأهيل القيادات الحزبية، كل هذا يؤدي إلى تمركز شديد للقرار الحزبي، وضعف في الهيئات الوظيفية وقلة في فضاءات التحاور والتفاكر الداخليين.
1-5. عدم كفاية نموذج التدبير الحزبي المركزي
يعتمد نموذج التدبير الحزبي كما نعرفه ونعيشه في حزبنا على التداول في أمور الحزب في هيئاتنا التنظيمية التنفيذية، وتعتبر اجتماعات هذه الهيئات هي المجال الطبيعي وربما الوحيد للمدارسة وللتداول ولتطوير الأفكار، ولاتخاذ القرار وللتدبير اليومي، وهي مستويات مختلفة في التدبير يختلط فيها ما هو استراتيجي بما هو تنفيذي إجرائي، وما هو سياسي عام بما هو تنظيمي تدبيري، وإذا حصل وحضر البعد السياسي بثقله واستعجاله توارت إلى الخلف القضايا الأخرى، فيغلب السياسي على ما دونه، ويتأخر البت في قضايا مجالية أو تنفيذية بما يؤدي إلى ضعف في التدبير وتمركز في القرار أو اختلاط في مستوياته.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك ضعف الهيئات والقيادات الوسيطة، وعدم كفاية الأطر الإدارية في الإدارة المركزية، وضعف دورها وعدم استقرارها، فمن الطبيعي أن يكون التدبير الحزبي المركزي غير قادر على التدبير الفعال للتنظيم بما هو آلة تشتغل بكثير من التفاصيل تقتضي حسن المتابعة وسرعة القرار وأيضا تفويضا حقيقيا للصلاحيات والمسؤوليات مركزيا ومجاليا.
1-6. عدم كفاية الموارد البشرية وضعف الانتشار والانفتاح
إن تدبير الموارد البشرية في المجال الحزبي من أهم إشكالات العمل السياسي، فنحن لسنا بصدد تدبير موارد في سوق الشغل تحكمها آليات التأهيل المعروفة وتضبطها وسائل الاستقطاب المتداولة عند المشغلين. إن الموارد البشرية في العمل السياسي تصنع على مهل بما يمكنها من التمكن من الوعي السياسي وآليات عمله. كما أنها في حاجة لمشروعية داخل الهياكل الحزبية وفي المجتمع، وهي مشروعية تكتسب من خلال النضال والالتزام الحزبيين، والإسهام الفعال في الدفاع عن خيارات الحزب والانضباط لأسس اجتماعه ونظم اشتغاله.
وإذا أضفنا إلى ذلك ظاهرة العزوف وتهرب أهم كفاءات المجتمع من العمل السياسي، وصعوبة اندماج المتحمسين منهم في هياكل الحزب، وصعوبة تأقلمهم مع مقتضيات ديمقراطيته الداخلية وصعوبات تدبير متطلبات الانفتاح والاستيعاب داخل الحزب ومؤسساته. كل هذا يجعل من تعزيز الموارد البشرية للحزب ضرورة لا خيارا، خاصة مع الاستنزاف الكبير للأطر الحزبية في تدبير الشأن العام.
2ـ اختيارات وتوجهات تنظيمية
لقد أصبح من اللازم في ضوء ذلك كله إعمال التغييرات التنظيمية اللازمة لتأهيل الذات الحزبية وتطويرها كي تكون قادرة على الوفاء بمتطلبات قيادة معركة استكمال وتعزيز البناء الديمقراطي لبلادنا. مما يتطلب إنجاز المهام التنظيمية التالية:
2-1. تطوير وظيفة التأطير والتكوين والتحصين للمناضلين
إن المناضل الحزبي هو رأسمال التنظيم الحزبي وثروته الأولى، وهو أيضا واجهة الحزب وداعية مشروعه، ومنزل خياراته وسياساته، وبالتالي على التنظيم خدمته والاهتمام به. كما على المناضل أن ينتبه إلى أهمية دوره وإلى مسؤوليته في هذا المجال، بحيث لا يليق به أن يحصر أفقه في مجال عمله الضيق تنظيميا أو انتدابيا، بل عليه أن ينظر إلى عمله باعتباره لبنة في مشروع كبير واسع، وإسهاما في بناء صرح إصلاحي ممتد.
وإن ذلك يوجب على المناضل الحزبي أن يتسع صدره وأفقه وأن تسمو همته لتنظر إلى عظائم الأمور وكبارها لا إلى صغر وضيق الخلافات الحزبية والشخصية وما يصاحبها من غمز ولمز وتنابز واختلاف قد يفضي إلى ذهاب الريح لا قدر الله.
بناء على ذلك يتعين على التنظيم الحزبي أن يفعل كافة النظم التأطيرية والتكوينية والتوجيهية والسياسات والإجراءات التنظيمية ليرعى ويحفظ ويعمق ويطور الميزات الأساسية لمناضلي حزب العدالة والتنمية، من استقامة أخلاقية وسياسية ونزاهة وسلامة ذمة بما يجعل الهم الأساسي لمناضلي الحزب هو خدمة الشأن العام قياما بالواجب وحرصا على عدم تحويل السياسة إلى مدخل للفساد والإفساد خيانة للأمانات واستغلالا للنفوذ.
2-2. تعميق الثقافة والممارسة الديمقراطية
وعلى التنظيم الحزبي أن يعمق أيضا قيم الحرية والديمقراطية لدى مناضليه إذ لا يتصور عقلا أن يقود حزب شعبه وأمته نحو التحرر والانعتاق ومعانقة فضاءات الحرية الرحبة، تحجيما لشر الاستبداد إن هو عجز عن إشاعة الحريات الفردية والجماعية، وعن بسط الحرية للمناضلين جميعهم، بما يضمن تفتيت وتحجيم مداخل ومنابت الاستبداد المتأصل في الأنفس أفرادا، والعمران البشري جماعات ومؤسسات.
2-3 .رفع مستوى التكوين والتأهيل
وقياما باستحقاقات المسؤوليات التدبيرية الملقاة على كاهل الحزب سواء في تدبير الشأن العام العام الوطني أو المجالي، على التنظيم الحزبي أن يؤهل باستمرار أعضاءه بالخبرات اللازمة والتكوينات الملائمة، والتأطير السياسي اللازم بما يرفع من قدراتهم ومهاراتهم التدبيرية والتواصلية، إضافة إلى تحقيق الحد الأدنى المطلوب من الانسجام اللازم في المقاربات والسياسات العمومية وفقا لاختيارات الحزب وسياساته التي يطورها داخل مؤسساته.
2-4. تدبير الانفتاح وتطوير العضوية وتدبير الموارد البشرية
لا يمكن أن يتقدم الحزب في الاضطلاع بمهامه ورسالته بكفاءة واقتدار في ضوء موقعه الجديد، دون أن يتحول إلى محضن ومشتل للقيادات السياسية، ولا يمكن بدعوى مخاطر الاختراق الوصولي، وضعف التدرج النضالي، أن يتم إغلاق أبواب الحزب أمام الكفاءات.
ولئن كان موقع التدبير يغري أكثر بتوسع قاعدة الحزب مما قد يفتح المجال لتلك الظواهر التي يخشى منها على أصالة الحزب واستقامة خطه، فإنه يتعين الحذر من اعتماد هذه الظواهر الطبيعية في المجتمعات البشرية ذريعة لتحصين بعض المواقع التنظيمية حذرا من تضييق الفرص أمام الولايات الانتدابية أو في مواقع المسؤولية.
المطلوب هو تدبير عملية الانفتاح بتوازن ومرونة وحكمة تمكن من إمداد الحزب بالموارد البشرية الكافية لتحقيق أهدافه، وتؤمن في نفس الوقت أصالة الحزب وصفاء نهجه واستقامة مسيرته، وبالتالي ينبغي العمل على توسيع العضوية داخل الحزب، والاهتمام ببنيات الاستقبال، وخلق فضاءات للعمل تمكن الأعضاء الجدد من الاندماج في الحزب والتفاعل معه تطويرا لأدائهم ومسارهم السياسيين.
2-5. في تدبير العلاقة بالكفاءات والأطر
إن الضغط الذي يتعرض له الحزب في مجابهة تحديات تدبير الشأن العام قد يدفع الحزب مركزيا ومجاليا إلى سد خصاصه بالانفتاح على أطر وكفاءات محدودة المسار السياسي أو التجربة النضالية.
وهنا وجب الانتباه إلى خيط رقيق وتوازن دقيق ينبغي أخذه بعين الاعتبار في تدبير هذا الأمر بتوازن وحكمة. فلا ينبغي بأي حال أن يتحول الحزب إلى قنطرة لتطوير واستكمال المسارات المهنية لفئات ظلت على هامش العمل السياسي، وتهربت من العمل الحزبي حينما كان ثقيل التكلفة، لتعود إليه بعدما سهلت تكلفته وخفت مؤونته.
إن الموقع الطبيعي للأطر والكفاءات هو إسناد العمل السياسي ودعمه لا تحمل المسؤولية السياسية عوضا عنه، وما عدا ذلك فهو استثناء لا ينبغي له أن يتحول إلى أصل. فالكفاءة والتقنية في العمل السياسي إنما تكون ذات قيمة تمكنها من الانخراط في الفعل السياسي المباشر، حينما تسندها المشروعية الحزبية المؤسسة على الالتزام والنضال الحزبيين، وهو ما يكتسب من خلال التأهيل السياسي بتشرب منهج الحزب وأطروحاته.
والوضع الطبيعي هو الانفتاح المقدر على الكفاءات مع توفير الفضاءات الملائمة للاستيعاب والتكوين السياسي والتأطير وفق توجهات الحزب ورؤاه المذهبية والسياسية وخلفيته الفكرية والمذهبية.
2-6. تعزيز الجهوية الحزبية
ضمن الحزب منذ مؤتمره الخامس مبدأ اللامركزية في تسيير شؤونه. وبالرغم من المجهودات المعتبرة التي بذلها الحزب من خلال تأهيل الهيئات المجالية ومنحها قدرا معتبرا من الصلاحيات، غير أن المتغيرات التي شهدها السياق السياسي العام الذي يعيشه المغرب، وخصوصا التعديل الدستوري الأخير، والانفتاح على ورش الجهوية المتقدمة، وما تعنيه من منح الجهات صلاحيات تنفيذية واسعة، كل هذا يقتضي إعمال جيل جديد من المقتضيات التنظيمية المفضية إلى لامركزية حقيقية وواسعة، تمكن الكتابات الجهوية من مسايرة التقدم الدستوري الذي عرفته الجهوية، كما تمكنها من استقلالية حقيقية عن المركز.
وبناء عليه لا يمكن، باعتبار المستجدات السياسية التي يعيشها المغرب، وبالنظر إلى خيار الجهوية المتقدمة الذي أقره الدستور، وباعتبار الانغماس والاستغراق المركزي في تدبير الشأن العام الوطني، وبالنظر إلى الاستحالة الموضوعية للإحاطة بتفاصيل العمل المجالي، وما سيعرفه مستقبلا من انغماس كبير للهيئات المجالية في تدبير الشأن العام المجالي (جهوي وجماعي)، كذلك يقتضي مضيا في تعزيز نهج الجهوية ومنح صلاحيات واسعة للجهات لتصبح هي المسؤولة الأولى على تدبير التنظيم الحزبي على مستوى الجهة (أقاليم ومحليات). مع منحها صلاحيات إبداع القوالب الوظيفية الملائمة لتدبير عمل الحزب في إطار مجالات اختصاصاتها القانونية والجغرافية.
2-7. التمييز بين التدبير السياسي والتدبير الحزبي
إن طبيعة العمل السياسي، وما يعرفه من حضور وغلبة للشأن السياسي العام بثقله ومستعجلاته وتقلباته، أن يهيمن على غيره، فيتأخر البت في قضايا حزبية هامة مجالية أو تنفيذية، فتكون المحصلة النهائية ضعف بين في التدبير الحزبي، وهو ما يكرس التفاوت بين جودة الأداء السياسي العام، بحكم قوة المنهج وسلامة المقاربة وتوفق القيادة وضعف المنافسين، وبين الأداء الحزبي والتدبير التنظيمي.
لقد اقتضى النظر -استحضارا لهذا الواقع الجديد وذلك التفاوت القديم- التمييز بين الهيئات السياسية وهيئات التدبير الحزبي بالنظر إلى غلبة القضايا السياسية على التدبير الحزبي، وبالنظر إلى انشغال غالبية أعضاء الأمانة العامة في تدبير الشأن العام الوطني (وزراء، برلمانيون…)، وبالنظر إلى أهمية التمييز بين القيادة السياسية التي تختص بتدبير القضايا السياسية العامة، بغرض إيلاء التدبير الحزبي ما يقتضيه من أهمية واختصاص ومتابعة لتدبير شؤون الحزب كافة ما عدا الشأن السياسي العام.
2-8. تعزيز وتطوير وظيفة التواصل السياسي وتأهيل الأداة الحزبية المحلية للتواصل مع المواطن ولإسناد التجربة الحكومية:
لقد شكل التواصل السياسي أحد أهم عناصر القوة لدى حزب العدالة والتنمية، ووجب بناء على ذلك تطوير هذه الوظيفة وتنويع رسائلها ووسائطها بما يمكن الحزب من الحفاظ على التصاقه بهموم الناس وقضاياهم. ويقتضي الموقع الجديد للحزب في قيادة العمل الحكومي مزيدا من التواصل والاحتكاك المباشر واليومي مع المواطنين إنصاتا لهم وتدقيقا في احتياجاتهم، وعملا على ضمان التفاعل اللازم للحزب مع محيطه، ورصدا لنجاعة وفعالية السياسات العمومية التي يسهر وزراء الحزب على تنفيذها. وهو تواصل تقتضيه وظيفة الإسناد للتجربة الحكومية. إنها شكل من أشكال مواصلة النضال الديمقراطي في شكل جديد، وانخراط من المؤسسة الحزبية في شراكة فعالة من أجل الكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعية.
2-9. تطوير وظائف الإنتاج السياسي وتطوير مستوى التدبير السياسي
إن الموقع الجديد للحزب، ومقتضيات قيادته للعمل الحكومي، وإقباله المرتقب على التقدم في تدبير الشأن العام المحلي، إضافة إلى التحديات التي سيفرزها خيار الجهوية المتقدمة، كل هذا يقتضي من التنظيم الحزبي إيجاد الصيغ والنظم والآليات التنظيمية الكفيلة بتفعيل وتطوير وظيفة الإنتاج السياسي، بما هو تطوير وإبداع للمفاهيم والمقاربات والسياسات العمومية القادرة على مجابهة تكاليف تدبير الشأن العام الوطني والمجالي.
المطلوب في ظل التحديات الجديدة التي يواجهها الحزب أن نتمكن من تحويل الحزب من خلال مؤسساته وبنياته التنظيمة إلى فضاء حقيقي لتعزيز النقاش السياسي، ولإبداع الأفكار والسياسات القادرة على تطوير وتأطير أداء مناضلي الحزب في مواقعهم المختلفة بما يؤدي إلى الوفاء بالتزامات الحزب تجاه المواطنين بالعمل الدؤوب والمستمر خدمة لهم وتقدما بهم في مسارات الحرية والكرامة والعدالة والتنمية.
خاتمة
يتزامن المؤتمر الوطني السابع مع بدء حزب العدالة والتنمية لمسار جديد في تدبير مشروعه الإصلاحي، مسار محفوف بإكراهات كثيرة وتحديات متنوعة، فهو مفعم بآمال عريضة لفئات واسعة من المواطنين، مسار مسنود بسياق استثنائي استرجعت فيه الأمة المبادرة، وتعود فيه السياسة إلى وضعها الطبيعي، أي أن تكون الدولة، أنظمة ومؤسسات ورجالات، في خدمة الشعب مصدر المشروعية وموضوع الخدمة العمومية بأرقى ما يمكن من جودة وفاعلية.
ولقد اختار المغرب اليوم التعامل مع رياح الربيع الديمقراطي بطريقة مختلفة عن البلدان العربية الأخرى، وقد نجح في الشوط الأول، والجميع يترقب نتيجة الشوط الثاني لتأكيد أطروحة الاستثناء المغربي، والنتيجة الطبيعية لتأكيد ذلك هي نجاح التجربة الحكومية الحالية، ووضع المغرب في سكة الديمقراطية الحقيقية وفي سكة الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي والقطع مع جذور الفساد والإفلات من المحاسبة والمراقبة.
ولا يمكن المراهنة على استقرار حقيقي ودائم، وعلى تنمية مستمرة ضامنة للاستقرار، وعلى عدالة اجتماعية محصنة للوطن، ما لم نتقدم بعزم وإصرار في بناء ديمقراطية حقيقة، فلا يُتَصَوَّرُ استقرارٌ مع الظلم والفقر، ولا يمكن أن تدوم الوصفة المغربية، المجملة في الإصلاح في ظل الاستقرار، ما لم تؤد السياسات العمومية إلى تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقيتين تضمنان العيش الكريم للمواطن صاحب الشأن ومصدر المشروعية.
واليوم -أكثرَ من أي وقت مضى- وَجبَ الإسراعُ في إعمال التغييرات والسياسات اللازمة لإطلاق دورات تنموية قوية وحقيقة تُمَكِّنُ من خلق الثروات اللازمة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي الحقيقي المبني على التوزيع العادل لثمار النمو.
لمثل هذه اللحظات الصعبة والسياقات الاستثنائية والمهام العسيرة تستدعى الهمم الكبيرة، وتوضع رهن الاختبار الإرادات والعقول والأفئدة.
ونحن اليوم، أبناء حزب العدالة والتنمية، نجدد العهد على الوفاء والبذل والعطاء خدمة للوطن والمواطنين، على أمل غد أفضل وحلم أكبر ومستقبل ينعم فيه مغربنا بالرفاه والأمن والأمان، بالعدل والحرية والكرامة وبكل جميل يستحقه وطن مثقل بالمواهب والطاقات والإمكانيات.
والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.
المؤتمر الوطني السابع لحزب العدالة والتنمية
الرباط في: 24شعبان 1433 ه الموافق 14يوليوز2012
[1] أطروحة المؤتمر الوطني السادس، ص31
[2] أطروحة المؤتمر الوطني السادس، ص 33-34