صادق المؤتمر الوطني السادس إجمالا على هذه الأطروحة بتاريخ 19-20 يوليوز 2008م وفوض المجلس الوطني بتدقيقها والمصادقة النهائية عليها.
وبتاريخ 7 شتنبر 2008 شكل المجلس الوطني لجنة لإعداد الصياغة النهائية، وهي التي صادق عليها المجلس في دورته العادية بتاريخ 26-27 دجنبر 2008م.
النضال الديمقراطي مدخلنا إلى الإصلاح
عقد حزب العدالة والتنمية مؤتمره السادس تحت شعار “لا حياة سياسية بدون مصداقية” في ظرفية سياسية واجتماعية وطنية تميزت بعدة تحولات تسائل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمجتمع المغربي بمختلف مكوناته .كما تميزت بصعوبات وإكراهات وتراجعات وإحباطات مست في الصميم الأمل الذي خلفه الانفراج السياسي لسنوات التسعينيات والسنوات الأولى للألفية الثالثة.
عقد حزبنا مؤتمره السادس في ظل تحولات سياسية واقتصادية دولية تتطلب منا قراءة واعية، تحولات تمس بعمق العلاقات والاستقرار والأمن في العالم سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي، وتسائل السلم الاجتماعي في البلاد النامية وسيادة الدول والشعوب وأمنها الغذائي واستقرارها الاجتماعي والسياسي.
وانعقد مؤتمرنا السادس وحزبنا قد راكم خلال المرحلة السابقة عدة مكتسبات سواء على مستوى نضاله وأدائه السياسي أو أدائه التنظيمي، مما جعل من هذا المؤتمر محطة لتعزيز هذه المكتسبات وتطويرها، لكن في الوقت ذاته فإننا ـ من منطلق النزاهة الفكرية والموضوعية ـ في حاجة للوقوف على مختلف مظاهر النقص والخلل التي عرفها أداؤنا العام سواء على مستوى مقارباتنا ورؤانا النظرية واجتهاداتنا السياسية أو على مستوى خطابنا ومواقفنا وجاهزيتنا النضالية ونجاعتنا الميدانية.
أولا: مقدمات
1 ـ المؤتمر لحظة نظر وتحليل واعتبار
إن الظرفية التي يعقد فيها حزبنا مؤتمره السادس تفرض قراءة متأنية للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي يعرفها العالم، للوقوف عند دلالاتها ومغازيها، مما يقتضي التسلح بأدوات التحليل الموضوعي والإدراك العلمي للشروط والعوامل التي أفرزتها، وللمسارات المحتملة التي يمكن أن تسلكها، ولآثارها على موقع حزبنا باعتباره أحد أهم مكونات الساحة السياسة، ومن أكبر الفاعلين فيها .
وبالقدر الذي تتطلب هذه القراءة الجماعية وقوفا عند التهديدات والفرص المحتملة، فإنها تقتضي أيضا الوقوف على عناصر القوة وعناصر الضعف في التوجهات المذهبية، والاختيارات السياسية، والأدوات التنظيمية، وفي القدرة على الفعل والإنجاز.
لكنها تتطلب بالمقابل أيضا جاهزية نضالية عالية، وطموحا سياسيا وثقة كبيرة في إمكانية التغيير والإصلاح؛ على اعتبار أن الفعل السياسي ـ إن كان من اللازم أن يتسلح بالتحليل العلمي الموضوعي، وبالقدرة على الإمساك بالمرجعية القانونية المتحكمة في الحركية السياسية والمجتمعية، وفي المتغيرات الخارجية والداخلية ـ فهو أيضا فعل نضالي إرادي لا يستسلم لمنطق الحتميات المعطلة للمبادرة.
وهو مبادرة فاعلة هادفة إلى استثمار الفرص وما تتيحه من إمكانيات وما تفتحه من آفاق، والتعاطي مع الإكراهات والتحديات بهدف التقليل من آثارها وإيجاد البدائل العملية والنضالية التي تحولها إلى عناصر محفزة على المقاومة والإبداع.
وهو أيضا استثمار لعناصر القوة من أجل تحقيق تراكمات متواصلة على خط الإصلاح، للإسهام في إقامة مجتمع مغربي منفتح ومتحضر ينعم بالديمقراطية والعدالة والتنمية الشاملة.
وسيظل حزبنا مؤمنا بأن التغيير ممكن، وأن الإصلاح المأمول قادم مهما تعاظمت عناصر النكوص والتراجع. كما سيظل مصرا على خط المشاركة، والنضال من أجل إرجاع المصداقية للعمل السياسي، رافضا لعوامل التيئيس والعدمية و الانسحابية والانتظارية التي لا تخدم إلا خصوم الإصلاح والجهات المقاومة للتغيير. وسيظل الحزب متمسكا بنهج التدافع السلمي القائم على مبدأ التدرج والتراكم، انطلاقا من اقتناعه بأن حركة التاريخ لا تعرف بالضرورة تطورا خطيا تصاعديا بل تسير سيرا حلزونيا، خاصة في المراحل ذات الطبيعة الانتقالية.
غير أن التحليل المطلوب ـ والذي من اللازم أن يتحلى بالصرامة المنهجية والدقة العلمية ـ ليس تحليلا نظريا أكاديميا، بل هو تحليل وظيفي يستحضر من المعطيات ما يفيد في التشخيص، ويقود إلى بناء نظرية العمل خلال الحقبة الفاصلة بين محطة المؤتمر السادس ومحطة المؤتمر السابع إن شاء الله.
2 ـ مفهوم الأطروحة
نقصد بالأطروحة نظرية العمل المؤطرة للمرحلة؛ أي الرؤية المرحلية للحزب التي تسعى ـ بعد قراءة وتحليل الوضعية السياسية العامة داخليا وخارجيا ـ إلى تحديد المدخل الأساس للإصلاح وأولوياته الكبرى في هذه المرحلة، وإلى تحديد التموقع السياسي والاجتماعي للحزب، وكيفية تفعيل توجهاته في الانفتاح والتعاون مع القوى السياسية والاجتماعية والمدنية، التي تتقاطع نظرتها للإصلاح مع نظرة الحزب، وكيفية تطوير الأداة الحزبية لتنسجم مع متطلبات الخط السياسي للحزب في هذه المرحلة،كل ذلك في علاقة بالبرنامج العام للحزب وبرؤيته ورسالته، وبالأهداف وبمجالات العمل الإستراتيجية التي سبق له أن سطرها في محطات سابقة، وفي علاقة بالممكن تحقيقه سواء بالنظر إلى المعطيات الموضوعية أو المعطيات الذاتية.
الأطروحة إذن هي الجواب الحزبي الجماعي على الأسئلة التي يطرحها الواقع السياسي والاجتماعي المرحلي، إنه الجواب الذي سيسعى الحزب من خلاله أن يجسد ـ في حقبة زمنية معينة ـ معالم مشروعه الإصلاحي.
والأطروحة كذلك مجال لافتحاص مدى قوة وتماسك البرنامج العام و الرؤية والرسالة، ولقدرتها التفسيرية، وصلاحيتها للتأطير المذهبي والنضالي لسلوك المناضلين.
وعلى الرغم من أن الأطروحة هي قراءة حزبية لمعطيات المرحلة والتطورات الدالة داخليا وخارجيا. وعلى الرغم من أنها اجتهاد في تقديم رؤية للعمل السياسي خلال هذه المرحلة وأولوياتها، إلا أن الحزب يأمل أن يكون مضمونها موضوعا لنقاش سياسي وطني مفتوح إسهاما في تجاوز الاختلالات التي تعاني منها الحياة السياسية المغربية.
3 ـ المؤتمر السادس لحظة سياسية بامتياز
لقد أراد حزبنا أن تكون محطة المؤتمر الوطني السادس، لحظة سياسية بامتياز، في الوقت الذي توجد فيه محاولات لاغتيال السياسة والتشكيك في الهيئات السياسية والمنظمات الحزبية.
ولذلك بادر الحزب إلى فتح نقاش سياسي موسع قبل المؤتمر وسيستمر بعده من خلال مبادرة الحوار الداخلي التي يسعى الحزب إلى مأسستها، لتسهم في تحرير طاقات الإبداع وتوفر فضاءات لحرية التعبير والتفاعل الجماعي باعتباره السبيل الحضاري لبناء ثقافة سياسية مشتركة ، والإسهام في التجديد المتواصل لفكرنا السياسي.
كما تجلى هذا البعد السياسي في تبني المؤتمرللأطروحة باعتبارها إضافة نوعية لم تجعله مقتصرا على الاستحقاقات التنظيمية بل جعلت منه محطة لنقاش مكثف حول الخط السياسي للحزب مركزيا وجهويا.
ثانيا: حزب العدالة والتنمية ومتغيرات الوضع الدولي
4 ـ سيناريوهات تراجعية وأخرى واعدة
يكشف التتبع الواعي لمعطيات الوضع الدولي عن مسارات وسيناريوهات تراجعية، كما يكشف في المقابل عن مسارات واعدة لصالح توسيع مجال التجربة الديمقراطية في العالم وفي دول المنطقة ومنها المغرب، وفي هذا الصدد يمكن أن نسجل ما يلي:
4-1: تراجع خطاب الدمقرطة
لقد ظهر اتجاه متزايد في بعض مراكز القرار الدولي إلى مراجعة خطابات وشعارات دعم الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي على اعتبار أن إعمال الديمقراطية قد يأتي بنتائج غير مرغوب فيها، وأنه قد يخدم الحركات الرافضة لنزعات الهيمنة والتوسع لدى بعض الدول النافذة في العالم أو الدول الاستعمارية القديمة التي تأمل في المحافظة على مراكز نفوذها في المستعمرات السابقة، ويحد من التفوق الاستراتيجي للكيان الصهيوني، ويضعف من القدرة على التحكم في المنطقة ويضعف الأنظمة الحليفة للغرب.
وفي هذا الإطار سجلت الآونة الأخيرة ميلا إلى إنهاء فترة التعايش مع البروز السياسي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، خاصة في دول “الطوق” أي الدول المجاورة للكيان الصهيوني، حيث تواصلت حالة الانسداد السياسي في مصر، وتراجعت التجربة الأردنية التي شكلت لعدة عقود حالة متميزة في المنطقة، وكانت لبنان على وشك العودة إلى سنوات الحرب الأهلية ولا يزال الاستقرار السياسي فيها هشا، كما كانت هناك محاولات لعرقلة التجربة التركية الناجحة والحيلولة دون انضمام تركيا للاتحاد الأوربي.
4-2. أما على المحور الأوربي فيزداد اصطفاف بعض الدول الوازنة في الاتحاد الأوروبي وراء السياسات الخارجية الأمريكية، واستعدادها لدعم ضربة عسكرية محتملة لإيران، كما تتواصل الهواجس من الهجرة، وتتزايد التوجهات العنصرية الرافضة لاندماج المهاجرين والمعبأة بمشاعر الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، وتغليب البعد الأمني في التعاطي مع قضايا الهجرة والمنطقة.
وفي سياق سعي فرنسا للبحث لها عن دور، وحرصا منها على حماية مواقع نفوذها القديم من المنافسة الأمريكية في المنطقة، وتزايد التغلغل الصيني في إفريقيا والمستعمرات الفرنسية القديمة، فهي تتطلع إلى تقوية دورها عبر ما يسمى بالاتحاد المتوسطي. وتبدو مشغولة أكثر بالمحافظة على نفوذها التاريخي ومصالحها الإستراتيجية والتجارية والاقتصادية والثقافية، وبسياسات “الجوار” التجاري، وبالسياسات التي تحميها من تدفقات الهجرة لفائدة هجرة انتقائية ستؤدي إلى إفراغ المنطقة من كفاءاتها وأدمغتها العلمية، أكثر من اهتمامها بدعم التحول الديمقراطي في المنطقة، كما تشهد لذلك شهادات حسن السلوك التي تسارع إلى توزيعها على دول وأنظمة تنتهك الحريات وحقوق الإنسان.
ورغم ذلك كله تبقى علاقات المغرب مع فرنسا علاقات أساسية ينبغي أن تبنى على التعاون والمصالح المشتركة ومنطق الشراكة المتوازنة، نظرا للروابط التاريخية والحالية اقتصاديا اجتماعيا وثقافيا.
4-3. يتأكد مما سبق أن التحولات في المنطقة تتجه نحو دعم سيناريوهات التراجع في مجال خطاب الدمقرطة وحقوق الإنسان، وأنه ستكون لذلك آثار واضحة في استقواء التوجهات غير الديمقراطية، والتوجهات الكامنة نحو الاستفراد في تدبير الشأن العام وإضعاف التوجه نحو إشراك الشعوب في القرار السياسي. ومن ثم يبقى الرهان الحقيقي على الديناميات الداخلية للشعوب ونضالها الداخلي وليس على الضغط الخارجي الرسمي، وعلى التعاون مع المجتمع المدني الأوربي أكثر منه على المنظومة الرسمية الأوروبية أو الأمريكية.
5- سيناريو النضال والمقاومة
وبالإضافة إلى أن السياسة فعل نضالي إرادي، ينبغي أن يمارس عبر الصمود والعمل من أجل تغيير الشروط، ومقاومة عوامل الإحباط واليأس والتراجع، فإنه توجد مجموعة من المعطيات والفرص التي تجعلنا نرفض النظر إلى المسلسل التراجعي المذكور باعتباره قدرا محتوما أوضربة لازب. ومن ذلك على سبيل المثال :
5-1. الصمود الباهر للشعب الفلسطيني في مواجهة أكبر عدوان في التاريخ المعاصر أي العدوان الصهيوني الذي عمل على تشريد شعب بكامله، ومصادرة أراضيه، والسيطرة على مدينة القدس مسرى النبي صلى الله عليه وسلم والمدينة المقدسة بالنسبة لجميع الديانات ومواصلة العبث بها وتغيير معالمها التاريخية والعمرانية ومواصلة الاستيطان، واستعصاء مقاومته على الإبادة وتواصل إصراره على نيل حقوقه التاريخية المشروعة في مواجهة دعاوى الاستسلام والتطبيع والخضوع لمنطق القوة والتطويع والقبول بالأمر الواقع، كل ذلك أمام تخاذل كثير من الأنطمة، وهرولة بعضها في اتجاه التطبيع، وعجز المنطمات الرسمية العربية والإسلامية عن تقديم الحد الأدنى من المساندة والدعم.
5-2. المؤشرات الدالة على تعثر المشروع الأمريكي، على عدة أصعدة ومستويات حيث منيت السياسات الخارجية الأمريكية بهزائم متتالية في الصومال والعراق وأفغانستان ولبنان؛ وسقوط دعوى التحرير ونشرالديمقراطية وبناء شرق أوسط جديد تحت ما سمي بـ “الحرب على الإرهاب”، وسقوط الدعاوى التي سوقتها على أساسها، كل ذلك أدى إلى تراجع مصداقية الولايات المتحدة وأثر على صورتها في العالم.
5-3. تدل مؤشرات أخرى على أن العقود القليلة القادمة ستفرز صعود قوى اقتصادية وسياسية جديدة، تقع على رأسها الصين ودول جنوب آسيا والهند، وهو ما من شأنه أن يحد من غلواء الأحادية القطبية على المستوى الاقتصادي والسياسي، ويفتح آفاقا ممكنة لعالم أكثر توازنا.
ومن جهة ثانية تعرف أمريكا الجنوبية تحولات دالة في العلاقة مع الولايات المتحدة، ويتأكد الدور المتنامي للقوى المناهضة للهيمنة الأمريكية. وهو ما يقوي السيناريوهات التفاؤلية، ويقوي اتجاه مقاومة العولمة المتوحشة والاستفراد بالقرار السياسي الدولي والاستكبار والعلو المستند على منطق القوة.
6 ـ تموقع مع القوى التحررية في العالم
إن القراءة المتأنية لمجمل العناصر السابقة تقتضي من حزبنا تموقعا سياسيا ينطلق من مبادئ الانفتاح والتعارف الإنساني والتعاون مع كل القوى السياسية والمدنية والحقوقية الوطنية والدولية المدافعة عن قضايا الحرية والعدل والسلم العالمي واحترام سيادة الشعوب وحقها في الاختلاف والدعوة إلى التفاعل والتعاون بين الثقافات والحضارات في مواجهة أطروحات الصدام الثقافي والحضاري، ونصرة قضايا التحرر في العالم العربي والإسلامي الذي يعتبر الأكثر استهدافا من قبل مخططات الهيمنة والاستتباع، والانخراط في التوجهات والمواقف المناضلة على المستوى الدولي من أجل إقامة نظام دولي عادل قائم على مراعاة المصالح المشتركة.
7 ـ المغرب والتحولات الاقتصادية العالمية
يفضي تحليل التحولات الاقتصادية التي عرفها العالم في علاقتها بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الوطني إلى مجموعة من الملاحظات والخلاصات.
7-1. يشهد المحيط العالمي والجهوي تحولات متلاحقة، بسبب العولمة الاقتصادية الجارية، حيث يتزايد الطلب على الطاقة، والمواد الغذائية الأساسية والمواد الأولية، وهيمنة منطق الاحتكار والمضاربة، وزحف العمران على حساب المساحات المزروعة وزحف الصحاري وتلوث البيئة وتقلبات المناخ وندرة المياه، والتحطيم المتسارع للبيئة وللتوازنات الحيوية والبيولوجية مما يشكل تهديدا للاستقرار الجماعي، وينبئ أن الحروب القادمة قد تكون حروب جوع وعطش.
7-2. تشير التطورات المشار إليها إلى أن الحقبة المقبلة ستشهد قلاقل واضطرابات اجتماعية، تهدد السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، كما ستشهد تعمق أشكال التوتر في العلاقات الدولية، وفي العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي تحديدا في غياب عدالة أكبر في العلاقات الدولية وتضامن أكبر بين دول العالم.
7-3. ستشهد السنوات المقبلة أيضا ازدياد حدة التنافسية على المستوى الاقتصادي، كما ستكشف عن مخاطر متنامية بفعل توسع كل من الاقتصادين الأمريكي والصيني في اتجاه شمال إفريقيا، دون إغفال الفرص المتاحة والمرتبطة بالموقع الاستراتيجي للمغرب، والتي تمكنه من أن يكون محورا للعلاقات التجارية.
8 ـ المغرب في محيطه الإقليمي
يكشف تحليل المحيط الإقليمي للمغرب أن الفترة الأخيرة حبلى بالعديد من التحولات والمستجدات الدالة في الوضع الإقليمي، سواء على مستوى أقاليمنا الجنوبية في الصحراء أو على مستوى المدينتين السليبتين سبتة ومليلية والجزر المتوسطية المحتلة.
8-1. فلأول مرة في تطورات القضية الوطنية انطلقت المفاوضات المباشرة بين بلادنا وجبهة البوليساريو. وهذا بفعل الحركية الجديدة التي أحدثتها المبادرة المغربية بشأن منح حكم ذاتي للأقاليم الجنوبية والمساندة الدولية القوية التي حظي بها هذا المقترح، حيث شهدنا رشدا متزايدا في موقف المنتظم الدولي، وهو ما يدعونا إلى التأكيد على موقف الحزب الذي عبر عنه باستمرار بضرورة المضي عمليا في تنزيل مقتضيات المبادرة المغربية لتمتيع الأقاليم الجنوبية بالحكم الذاتي في إطار إصلاحات دستورية تؤسس لجهوية حقيقية موسعة تعطي الجهات المكانة اللائقة بها في النظام الدستوري والسياسي المغربي، بموازاة مع إيجاد حلول ناجعة للوضع التنموي والاجتماعي والحقوقي في المنطقة. ويدعو الحزب الجزائر إلى التجاوب مع التطورات التي يعرفها الموقف الأممي من قضية وحدتنا الترابية، ودول المنطقة إلى التقدم نحو إرساء شراكة تنموية استراتيجية كفيلة ببناء اتحاد مغاربي قوي ومزدهر وقادر على الصمود في عالم يقوم على التكتلات الاقتصادية لمواجهة تحديات العولمة.
8-2. وعلى المستوى القاري والجهوي، فإن المطلوب هو أن يستعيد المغرب إشعاعه الحضاري والثقافي على المستوى الإفريقي، وأن يعمل على توفير شروط عودته الفاعلة إلى حظيرة الاتحاد الإفريقي، وأن يستعيد دوره الفاعل في الساحة العربية والإسلامية والدولية.
ثالثا: متغيرات الوضع الداخلي:التطورات الدالة في الوضع السياسي في العقد الأخير
9 ـ يكشف تحليل أهم الأحداث الدالة في المسار السياسي للمغرب في الفترة الأخيرة عن عدة خلاصات ونتائج تنبئ عن حالة من التراجع في الحياة السياسية المغربية تتجلى من خلال المؤشرات والمعطيات التالية:
9-1. إذا كانت سنوات التسعينيات قد شهدت دينامية سياسية أفرزت تعديلين دستوريين ومحاولتين للدخول في توافق سياسي بين القصر وأهم القوى السياسية الفاعلة في البلاد آنذاك، انتهت الثانية منهما إلى تشكيل حكومة التناوب التوافقي، فإن تلك التجربة لم تفض إلى ما كانت تعد به وما كان يعلق عليها من انتظارات سواء لأسباب بنيوية دستورية ومؤسساتية ووجود بعض الجهات المقاومة للتغيير، أو لأسباب ذاتية ترتبط بالمشاركين في التجربة سواء من حيث قلة الخبرة أو الإرادة أو السعي لاستثمار المسؤولية الحكومية في فرض أجندات إيديولوجية.
9-2. أسفرت المحطة الانتخابية لسنة 2002 عن تقدم إيجابي نسبي بالمقارنة مع انتخابات 1997 حيث تراحع التدخل الإداري المباشر في الانتخابات، كما عرفت تقدما كبيرا للحزب على مستوى الخريطة السياسية حيث احتل المرتبة الثالثة، وتحول إلى أكبر حزب في المعارضة.
لكن في مقابل ذلك أبانت عن استمرار الرغبة في التحكم في الحياة السياسية وبلقنتها بطريقة غير مباشرة، وتواصل عوامل إفساد العملية السياسية من قبيل استمرار ظاهرة استخدام المال والنفوذ في الانتخابات والحياد السلبي للسلطة والتدخل المباشر أحيانا لإفساد العملية الانتخابية من قبل مستويات متعددة في هرم السلطة.
وسيظهر ذلك بشكل متزايد في الانتخابات الجماعية لسنة 2003 التي ستعرف كذلك استهداف مشاركة الحزب والضغط على بعض مرشحيه من أجل سحب ترشيحاتهم من لوائحه خاصة مع مخلفات الأحداث الإرهابية ل 16 ماي التي لم يكن قد مضى عليها سوى بضعة شهور. وقد بلغت عوامل الإفساد تلك حدا فاضحا في انتخابات تجديد ثلث مجلس المستشارين لسنة 2006 مما حدا بالسلطات تحت فظاعة عمليات الإفساد إلى تحريك عدة متابعات قضائية في حق بعض مفسدي الانتخابات. إلا أن طابعها الظرفي حال دون أن يكون لها أثرها الردعي المطلوب على المفسدين في الاستجقاقات الموالية.
9-3.ستكشف الأحداث الإرهابية لسنة 2003 عن هشاشة في تجربة الانتقال الديمقراطي في المغرب وقابلية كبيرة للتراجع على مستوى المكتسبات السياسية والحقوقية التي راكمها خلال الفترة الأخيرة وبداية العقد الأول ووجود
بعض النزوعات والاستعدادات الكامنة لدى البعض للانقلاب على تلك المكتسبات.
لقد كان لأحداث 16 ماي الإرهابية آثار سلبية على المستويات السياسية والحقوقية والفكرية والدينية، حيث لم يتم الاكتفاء بالتفاعلات الطبيعية للحدث، ولا التعامل معها بنضج ورزانة، بل تم استغلالها بشكل بشع في التوسع في الخيار الأمني وتهميش المعايير والضوابط القانونية في التعامل مع المتهمين، ليصل الأمر إلى الاعتداء على الحقوق الأساسية للمواطنين من خلال الاختطاف والتعذيب والمحاكمات غير العادلة، وهو ما أدى إلى الإجهاز على عدة مكتسبات حقوقية ما كان ينبغي التفريط فيها خاصة مع فتح ملف الإنصاف والمصالحة.
9-4. وصل الاستغلال السيء لاعتداءات 16 ماي والرغبة الجامحة في محاولة تحجيم حزب العدالة والتنمية إلى حد المطالبة بحله. و قد سلك البعض ـ حينما ظهر أن الدولة بفضل الحكمة الملكية لم تساير التوجه المذكور ـ سياسة الضغط والتهديد لحمل الحزب على مراجعة مجموع خطه السياسي وعلاقته بالمرجعية، ولتحجيم مشاركته الانتخابية.
9- 5. تواصل خلال السنوات الموالية التراجع عن المكتسبات والتحسن الذي كان قد عرفه المغرب بسبب تصاعد الانتهاكات في التعاطي مع حقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية وتزايد حالات الاعتداء على الصحافيين وحرية الصحافة، وعدم تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة المتعلقة بالإصلاحات المؤسساتية وبإصلاح القضاء وإصلاح نظام الشرطة والسجون التي كان من المأمول أن تشكل طيا لصفحة الماضي وتأسيسا لعهد حقوقي جديد.
10- انتخابات 2007 وتأكيد المنحى التراجعي
شكلت انتخابات 2007 بالنسبة لكثير من الفاعلين والمتتبعين للشأن السياسي في المغرب صدمة قوية دفعت كثيرا منهم إلى طرح تساؤلات مقلقة حول واقع الحياة السياسية والحزبية والمؤسساتية وجدوى المشاركة السياسية.
غير أن التحليل الموضوعي لنتائج تلك الانتخابات يكشف أن نتائجها كانت طبيعية بالنظر لمجمل التراجعات التي عرفها المغرب فيما بعد انتخابات 2002 .
كما كان أيضا نتيجة لمجموعة من المعطيات الموضوعية التي أدت إلى إفراغ المشاركة السياسية ـ سواء من موقع التدبير أو من موقع المعارضة ـ من مضمونها وجدواها، ولمجموعة من الإحباطات المتلاحقة من المجتمع الذي علق آمالا عريضة على دخول المعارضة القديمة إلى سدة الحكم، ونتيجة أيضا لتردي الوضع الحزبي الداخلي سياسيا وتنظيميا على هذا المستوى.
10-1. لقد أكدت حصيلة استحقاقات 2007 أن الطريق نحو إجراء انتخابات مستقبلية سليمة بعيدة عن مختلف أشكال الطعن والاعتراض وخالية من مظاهر الفساد والإفساد لا يزال طويلا، حيث جاءت حصيلة اقتراع 7 شتنبر 2007 مجددا مخيبة للآمال، وأدت إلى المس بمصداقية العملية السياسية، وكشفت بالملموس أن المغرب يراوح مكانه في مجال الإنجاز الديمقراطي.
كما كشفت عن أزمة عميقة يعيشها مشهدنا السياسي، ترجمتها النسبة المتدنية للمشاركة التي تجعلنا جميعا وعلى جميع المستويات معنيين بالجواب عن أسبابها. ومع هذا فنحن نعتقد بأن عدم تصويت نسبة معتبرة من المواطنين لا يمكن تفسيره فقط بالعزوف عن المشاركة، ولكن أيضا بحجم العراقيل التي وضعت في طريق العديد منهم وهم يحاولون القيام بواجبهم، من قبيل التشطيبات غير القانونية والتلاعب بالبطائق الانتخابية وصعوبة معرفة العديد من الناخبين مكاتب تصويتهم، مما حرمهم من أداء واجبهم الوطني.
10-2. وفي غمار هذه الظروف التي أجريت في ظلها انتخابات 7شتنبر، نؤكد أن التقديرات والتوقعات التي كانت تمنح الحزب عددا أكبر من المقاعد كانت متطابقة وصحيحة، غير أن عوامل الإفساد الممنهج والتدبير الموجه لمسار العملية الانتخابية حال دون تحقيقها، وبالتالي عطل فرز خريطة انتخابية حقيقية تعكس الحجم الفعلي للأحزاب المتنافسة.
10-3. وأفرزت هذه الانتخابات ظاهرة جديدة وخطيرة تتمثل في كون منطق الريع لم يعد منحصرا في الجانب الاقتصادي بل شهدنا ظهور الريع السياسي الذي يعمل على استغلال الوجاهة السياسية ونفوذ السلطة وإمكانيات الإدارة لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية، على اعتبار أن ذلك يفرغ التنافس السياسي من محتواه ويفقده مصداقيته، ويؤدي إلى خلق صيغة جديدة من التحكم في الخريطة السياسية.
10-4. غير أن المساءلة الذاتية التي هي فضيلة سياسية تقتضي إبراز جانب المسؤولية الذاتية. لقد كشفت الانتخابات المذكورة عدة ثغرات على مستوى الجاهزية التنظيمية والتوسع العضوي والامتداد الجغرافي، و التراجع في التعبئة. غير أن ذلك ينبغي أن لا يجعلنا ننسى أن حزبنا ـ رغم كل تلك المعيقات والإكراهات ـ قد أصبح القوة السياسية الأولى في البلاد من حيث عدد الأصوات، والقوة الأولى في المعارضة النيابية، كما أنه أحد عناصر الاستقرار السياسي من حيث أنه يمثل إحدى البدائل والخيارات الممكنة التي تعقد عليها آمال شريحة واسعة من المواطنين لإصلاح تدبير الشان العام.
11- المشاورات حول تشكيل الحكومة وتأكيد المنحى التراجعي
كشف تدبير المشاورات حول تشكيل الحكومة والنتائج التي أسفرت عنها بعد انتخابات 2007 المسار التراجعي في مجال البناء الديمقراطي.
11-1. فعلى الرغم من أن التدبير المشار إليه قد بدا متجاوبا في البداية مع مطلب احترام المنهجية الديمقراطية حين تم اختيار الوزير الأول من الحزب الأول الذي حصل على الأغلبية النسبية من مقاعد مجلس النواب، فقد تم التعاطي مع تشكيل الحكومة بطريقة أثارت استياء الرأي العام.
وكان ذلك من بين الأسباب التي أثرت سلبا على موقف نسبة هامة من المواطنين الذين شاركوا في الانتخابات، وزكى موقف المقاطعين في أن لا فائدة من الإدلاء بالصوت الانتخابي، ولا فائدة في المشهد الحزبي، ولا أمل في المؤسسة البرلمانية ولا في الحكومة.
11-2. تؤشر كل المعطيات السابقة على تفاقم المسار التراجعي على مستوى الحكامة السياسية في البلاد وهو التراجع الذي تدل عليه المعطيات التالية:
- نظام حكامة يتجه نحو مزيد من المركزية والمركزة والاستئثار بتدبير مختلف المجالات (الاقتصاد، المجال الاجتماعي، الحقل السياسي)، وإلى تكريس الازدواجية المؤسساتية ليس في اتجاه التوازن بين المؤسسات ولكن في اتجاه إضعاف دور المؤسسة الحكومية والبرلمانية.
- تجدد ملحوظ في مراكز النفوذ المقاومة للتغيير، التي استطاعت في كثير من الأحيان استعداء السلطة واستغلال النفوذ الإعلامي والسياسي، واستهداف المخالفين والحياة الحزبية والنقابية والحريات العامة والصحافة الخاصة.
11-3. ومع قرب الانتخابات الجماعية تدل العديد من المؤشرات على استمرار منطق التدبير التحكمي في التحضير لها والتأخر في فتح ورش إصلاح الميثاق والتقطيع الجماعيين ومدونة الانتخابات، وتأخر إعداد النصوص المرتبطة بهذه الاستحقاقات والطابع الشكلي للتشاور حولها.
11-4. هذه الحالة من المراوحة والتردد وعدم السير في اتجاه تراكمي على خط الإصلاح والتطور الديمقراطي يزكيها ما يعرفه الحقل الحزبي من اختلالات؛ حيث تتزايد الصراعات بين النخب الحزبية، ويتكرس منطق الاستفراد بالقرار ويزداد تراجع الديمقراطية الداخلية لفائدة تقدم بعض أصحاب النفوذ وبعض الأعيان، ويتواصل تهميش الشباب وتعطيل الآليات المفضية إلى تجدد النخب الحزبية. وحيث أنه لا إصلاح سياسي ولا تقدم في اتجاه التحول الديمقراطي المطلوب دون أحزاب قوية وديمقراطية، فإن المؤشرات السابقة تؤكد المنحى التراجعي في مجال دمقرطة الحياة السياسية والحزبية.
12ـ نتائج محدودة على مستوى الإقلاع الاقتصادي وهشاشة متزايدة على المستوى الاجتماعي
أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فيكشف تتبع أهم المعطيات الدالة على انعكاس المعطيات السياسية السالفة سلبيا على الحقل الاقتصادي والاجتماعي.
12-1. تؤكد مختلف المعطيات أن قضايا التنمية الاقتصادية ترتبط ارتباطا جدليا بقضايا الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي. فعلى الرغم من الأوراش الكبرى التي فتحت على عدة مستويات فقد شهدت السنوات الأخيرة نزوعا متزايدا لهيمنة منطق الريع في المجال الاقتصادي.
وحيث إن أي تنمية حقيقية لن تتحقق إلا بتكريس حكامة اقتصادية قائمة على الشفافية والمنافسة والمحافظة على المال العام وإنهاء سياسة اللاعقاب في مواجهة ناهبيه، فإن الوقائع تؤكد أن سيادة المنطق المذكور لا يزال يفوت على المغرب فرص انطلاق دينامية تنموية حقيقية شاملة ومستدامة قائمة على أساس دمقرطة الاقتصاد من شأنها أن تشجع تدفق الاستثمارات الأجنبية وتجعل المغرب أكثر تنافسية، وتدعم المبادرة وتشجع الرأسمال الوطني للقيام بالدور اللازم في دفع عجلة التنمية، التي تستفيد من ثمارها جميع الفئات والجهات.
وعلى الرغم من الطابع المتميز للمبادرة الوطنية للتنمية البشري كمبادرة إرادية تعتمد مقاربة مندمجة لمحاربة الهشاشة والفقر، فقد بقيت نتائجها محدودة لأسباب منها البيروقراطية الإدارية والتوظيف السياسي والانتخابي أحيانا والانتقائية والزبونية في اختيار الشراكات لتنفيذها أحيانا أخرى.
12-2. يواجه المغرب تحديات اقتصادية تتجلى أساسا في ضعف بنيوي يسهم في جعل وتيرة النمو متسمة بالبطء فضلا عن ضعف العدالة في توزيع ثمار النمو الشيء الذي يعيق القدرة على الاستجابة لتحديات التنمية البشرية.
12-3. وقد أدى تردي نظام الحكامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى اختلالات اقتصادية واجتماعية وتنموية. فلا تزال نسبة كبيرة من أبناء المغاربة لا يجدون مكانهم في المدرسة، كما أن نسبة الهدر المدرسي كارثية، ومعدلات الأمية مرتفعة خاصة بالبوادي وهوامش المدن وفي صفوف النساء .كما أن نظام التربية والتكوين لايزال عاجزا عن الاستجابة لمتطلبات التنمية وإكراهات المنافسة الدولية.
12-4. يمثل الفقر معضلة كبرى حيث لا تزال نسبة كبيرة من المغاربة تحت عتبة الفقر وترتفع هذه النسبة لتقارب ربع سكان العالم القروي، إضافة إلى الفوارق الاجتماعية التي تزداد اتساعا بين الأثرياء والفئات المعوزة من ناحية أولى وبين جهات وأقاليم المملكة من ناحية أخرى.
12-5. يحتل المغرب مرتبة متأخرة في مؤشرات العدالة الصحية، وفي التأمين الاجتماعي عموما، حيث يبدو مستقبل الفئات المحدودة الدخل والمحالين على المعاش مهددا، خصوصا بفعل الاختلال بين عدد السكان النشيطين المشتغلين والمتقاعدين ناهيك عن هزال المعاشات الحالية بالنسبة لعدد من الفئات.
12-6. يتزايد تدني مستوى المعيشة وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين التي لم تقف عند حد الفئات الضعيفة بل أصبحت تنذر بسحق الطبقة الوسطى والتحاقها بأسفل السلم بفعل التحولات التي تعرفها أسعار المواد الغذائية الأساسية في العالم، وبسبب رهن السياسات الحكومية المتلاحقة الأمن الغذائي الوطني لتقلبات السوق الدولية، وفي غياب سياسة طاقية تقلل من اعتماد المغرب على الخارج في تلبية حاجاته الطاقية، وبفعل تغول الاحتكار والوسطاء وغياب قانون لحماية المستهلك، وبسب الزيادات الضريبية التي لم تستثن المواد الأكثر استهلاكا من لدن الفئات الواسعة من المواطنين، وبسبب مظاهر الفساد وسوء تدبير دعم صندوق المقاصة الذي يستفيد منه المنتجون قبل المستهلكين، كل ذلك مقابل جمود الأجور وعدم تناسبها مع نسبة التضخم ومع الارتفاع المتزايد لمؤشر مستوى المعيشة، ناهيك عن فوضى سياسة التشغيل والأجور بالقطاع الخاص وخصوصا القطاع غير المهيكل.
12-7. لا تزال معضلة البطالة تبتلع مئات الآلاف من خيرة الشباب، خصوصا الحاصلين على الشهادات الجامعية، مما يشكل عبئا إضافيا على الأسر و يكرس تدني مستوى المعيشة وحالة الاحتقان الاجتماعي، إضافة إلى هشاشة سوق الشغل واتسام فرص الشغل المحدثة بالموسمية وعدم الاستقرار.
12-8. كما فشلت السياسات الحكومية في توفير السكن اللائق لفئات واسعة من المواطنين والقضاء على مدن الصفيح والدواوير الحضرية الهامشية، مما يعمق أزمة الأسر ويزيد في تهميشها وتدني استفادتها من الخدمات العمومية.
نتيجة لذلك كله يبدو المشهد الاجتماعي متجها كي يفرز مجتمعين تحت سقف واحد، مجتمع يعيش على الهامش أو يعاني من الهشاشة أو يعيش تحت خط الفقر ولا يستفيد من ثمار النمو ـ على محدوديتها، لا تصله الكفاية من العيش الكريم والحق في السكن وفي التطبيب والتدريس وفي الحماية الاجتماعية، وهو ما يجعله مهددا بمختلف أنواع الأمراض والانحرافات الاجتماعية. وفي المقابل نجد مجتمعا مشكلا من بعض النخب المحظوظة التي تستفيد من الامتيازات ومن ثمار النمو.
كما تنبئ التحولات المشار إليها عن مخاطر حقيقية في خروج دائرة الاحتجاج الاجتماعي من نطاق التحكم أو التأطير النقابي، في ظل تراجع هذا الأخير وتفشي الانقسامات فيه، فضلا عن وجود توجهات تهدف إلى مزيد من إضعاف المشهد السياسي والنقابي أمام قصور في مجال تطبيق القانون الاجتماعي وعجز حكومي أحيانا أمام تجاوزات بعض المقاولين الأجانب أو المغاربة في هذا الشأن.
13 ـ قصور المقاربات الثقافية وضبابية المشروع المجتمعي
13-1. يكشف تحليل الخطاب الرسمي عن تردد آخر يتمثل في ضبابية المشروع المجتمعي، حيث المراوحة بين الحديث ـ حسب الظروف السياسية والجهة المستهدفة ـ تارة عن المشروع الحداثي الديمقراطي، وتارة عن المشروع
الديمقراطي التنموي، وتارة أخرى عن الإسلام الوسطي.
و تتأكد تلك الضبابية في غياب سياسة ثقافية مندمجة، حيث نجد التباين واضحا بين السياسة الثقافية والإعلامية والسياسات التعليمية والسياسة الدينية، إلى درجة أن بعضها يظهر وكأنه موجه لنقض ما بناه بعضها الآخر، بحيث يبدو أننا أمام سياسات ثقافية متضاربة وليس أمام سياسة ثقافية واحدة ومندمجة.
13-2. وبدل أن تتوجه السياسات الثقافية التي من شروط فعاليتها الوضوح والاندماج والانتظام ضمن رؤية مجتمعية واحدة تروم تعزيز مكونات الهوية الوطنية وإعادة الاعتبار لها في تنوعها وتكاملها في مواجهة تحديات العولمة وتأثيراتها على النسق القيمي الوطني، فإنها تبدو غارقة في النزعات الاستعراضية والاحتفالية وتبذير المال العام والانخراط أحيانا ضمن منظور إيديولوجي ضيق يكرس قيم اللامسؤولية والاستهتار بالأخلاق العامة، بدل قيم النزاهة والعمل والمبادرة وقيم المواطنة المسؤولة.
وفي الوقت الذي يجري الحديث عن توجهات ليبرالية في المجال الاقتصادي والسياسي، نجد أن هناك اتجاها متزايدا لفرض نماذج وتوجهات ثقافية وأنماط قيمية غريبة على ثقافة وقيم المجتمع من خلال استخدام إمكانيات الدولة ووسائل الإعلام العمومي، في تعارض تام مع ديمقراطية الثقافة .
13-3. وإذا كانت الحرية شرطا في الإبداع الأدبي والفني، وكانت في جميع الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، وفي الإدراك العقلي السليم مشروطة هي الأخرى بالمسؤولية وبعدم الاعتداء على الآداب وعلى قيم المجتمع، فإن هناك سعيا متزايدا لنمط جديد من الديكتاتورية وفرض مقاربات شاذة على المجتمع والإنفاق عليها من المال العمومي بدعوى حرية التعبير وحرية الإبداع وإقامة نظام أخلاقي جديد مما يهدد تماسك المجتمع والأسرة .
13- 4. تعتبر الأمازيغية ثقافة ولغة إحدى أهم المكونات الأساسية التي أسهمت عبر التاريخ في صياغة الشخصية المغربية والثقافة الوطنية. غير أنها في الوضع الحالي لم تنل بعد مكانتها الطبيعية اللازمة في الحياة الوطنية .
وتعيش الثقافة الأمازيغية التهميش مثل باقي مكونات الهوية الوطنية لصالح لغة وثقافة المستعمر ولسياساته التي سعت إلى تعميق الفجوة بين المغرب النافع والمغرب غير النافع على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي،كما سعت في وقت من الأوقات إلى تعميق الفجوة بين مختلف مكونات الهوية الثقافية الوطنية.
كما أن هذا التهميش ليس سوى نتيجة لسياسات لغوية مرتبكة وغير راشدة فشلت في إعادة الاعتبار للغة العربية، وتعزيز مكانة الأمازيغية لغة وثقافة في الإعلام والتعليم ومن خلال العمل على دسترنها .
13-5. واعتبارا لما لابس تعامل المجتمعات البشرية من حيف وحياد عن التكريم الإلهي للمرأة باعتبارها إنسانا، اتخذ عبر العصورفي مختلف المجتمعات ـ ومنها المجتمعات الإسلامية في عصور الانحطاط ـ أشكالا مختلفة من الازدراء والإقصاء ومنعها من حقوقها الاجتماعية والسياسية والثقافية، و اتخذ في العصور الأخيرة شكل تشيئ لها قائم على استغلال جسدها وأنوتثها باسم تحريرها من القيود التي فرضت عليها عبر التاريخ، يصبح النهوض بأوضاع المرأة أحد المداخل لدمقرطة الحياة الاجتماعية، التي بدونها تبقى دمقرطة الحياة السياسية غير مكتملة.
والمدخل أن تبادر النساء إلى تعزيز مكانتهن من خلال إثبات أهليتهن وجدارتهن في مجالات الفعل السياسي والاجتماعي.ولذلك يشكل العمل بنوع من التمييز الإيجابي وسيلة لاستدراك تلك المسافة التي فرضها الإقصاء التاريخي.
لكن مقاربة النوع الاجتماعي باعتبارها مقاربة منهجية قائمة على التمييز الإيجابي يجب ألا تكون مطية لزعزعة استقرار الأسرة أو تبني رؤية صراعية للعلاقة بين مكوناتها. إن الأنسب لمجتمعنا والأكثر انسجاما مع مبادئنا الدينية تبني مقاربة تقوم على إقرار الإنصاف والعدل ومراعاة حقوق مختلف مكونات الأسرة والتكامل بينها، وتعطي للأسرة مكانتها اللازمة باعتبارها محضنا للتنشئة المتوازنة وأساسا من أسس الاستقرار والسكينة الاجتماعية.
رابعا : في الهوية المذهبية للحزب
إذا كانت الأطروحة هي الجواب الجماعي المرحلي على مختلف الأسئلة التي يطرحها الواقع السياسي والاجتماعي محليا، فإنها مناسبة أيضا لإعادة التأكيد على مبادئنا ومنطلقاتنا في العمل السياسي، وتطوير القدرة التفسيرية والتأطيرية لمرجعياتنا المذهبية والنظرية، وتدقيق مفرداتها وتنزيلها بشكل ملموس على واقع ملموس.
14ـ حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية
إن محطة المؤتمر الوطني السادس محطة جديدة لتأكيد مواصلة الحزب لمسيرته النضالية الهادفة إلى الإسهام في بناء مجتمع تحكمه مبادئ العدالة والتنمية. وهي أيضا مناسبة لتأكيد انخراطه في مسيرة التجديد والتحديث والتنمية الشاملة والإسهام في استكمال بناء دولة المؤسسات الضامنة للحريات والحقوق، وتأكيده على المشاركة الشعبية وتحقيق الانتقال الديمقراطي الكامل، كل ذلك في إطار المرجعية الإسلامية، مما يقتضي تأكيد وتدقيق المنطلقات المرجعية للحزب.
14-1. يستمد حزبنا أصوله الفكرية وأسس مشروعه المجتمعي من المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع المغربيين ومن الرصيد الحضاري للمغرب وقيمه الثقافية الغنية متعددة الروافد والتي انصهرت في إطار حركة تاريخية وحضارية خلاقة كونت معالم الشخصية المغربية وسماتها المميزة.
14-2. يعتبر الإسلام أسمى الثوابت المشكلة للهوية الوطنية، باعتباره إطارا مستوعبا ومنفتحا على كافة مكوناتها الوطنية، الإسلام الذي اغتنى عطاؤه التاريخي والحضاري بإسهام مختلف المكونات الثقافية للشخصية المغربية، والذي أبدى أبناؤه والمنتسبون إليه ـ انطلاقا من تعاليمه الداعية إلى التعارف والتعاون بين الناس ـ قدرة كبيرة على الانفتاح والتعايش مع غيره من الثقافات والحضارات.
وفي هذا الصدد ينطلق حزبنا في فهمه للإسلام من الرؤية المنفتحة نفسها والتي شكلت عنصر القوة في التجربة التاريخية والحضارية للأمة، رؤية تؤمن بالتنوع والتعدد والتعايش بين الديانات، وبحرية العقيدة، واعتبار قاعدة المواطنة أساس بناء المجتمع والدولة.
14-3. إن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، ولذلك فإن الأمة الإسلامية في عموم مسيرتها كانت أمة وسطا. وإن الغلو والتطرف كانا وسيظلان شذوذا عن الاتجاه الغالب في تاريخ الأمة. وهو ما يتأكد أيضا بالنسبة للشعب المغربي الذي تعتبر ظاهرة الغلو طارئة عليه ولا تمثل توجهه الأصيل.
غير أن الوسطية ليست تلفيقا أو أنصاف حلول، إنها منهج فكري وموقف أخلاقي ينبذ الغلو الديني من جهة والانحلال والتطرف اللاديني من جهة ثانية. إنها استقامة والتزام بأحكام الإسلام ومقاصده.
14-4. إن الإسلام بالإضافة إلى كونه مبادئ وأحكاما ومقاصد، فهو أيضا كسب بشري متواصل من جهة الفهم والممارسة، فكل جيل مطالب بأن يعيش تجربته الخاصة في الإسلام، وأن يجدد فهمه له ويستنبط من كليات أحكامه ومقاصده ما يمكن من خلاله الاستجابة لما يطرحه الواقع المتجدد من قضايا وإشكالات.
والتجديد المتواصل في نظرنا ليس شرطا في المعاصرة فقط، بل هو شرط في الأصالة أيضا، إذ أنه لا محافظة على الثوابت إلا من خلال فهم متجدد للدين، وبالتالي فالتجديد إذ يراعى الثوابت التي حسم فيها الشرع، فإنه يتوجه إلى الفضاء الأوسع المرتبط بالواقع لإبداع الاختيارات الملائمة التي من شأنها إصلاح أحوال الناس ورعاية مصالحهم وتطوير النظم السياسية والاقتصادية وفق مبادئ العدل والمصلحة والخير في تفاعل مع عطاءات الكسب البشري.
14- 6. حزب العدالة والتنمية حزب سياسي مدني ذو مرجعية إسلامية، له برنامج سياسي مدني يعمل على تطبيقه وفق القواعد الديمقراطية، ويجيب عن الأسئلة المطروحة سياسيا باعتبارها من قضايا تدبير الشأن العام، ولذلك فهو يسعى إلى الإسهام في تدبير الشأن العام من قبل مواطنين مدنيين ذوي خبرة في الميدان وفق القواعد الديمقراطية، وبالتالي فإن وظيفة أطر الحزب تختلف عن وظيفة الأئمة أو الفقهاء الذين يبينون الأحكام الشرعية ويصدرون الفتاوى في النوازل المعروضة عليهم.
والمجال الأساس لاشتغال الحزب هو مجال تدبير الشأن العام، بما يعنيه ذلك من تأكيد على التمييز بين مجال الاشتغال السياسي وأدواته وخطابه، ومجال اشتغال الحقل الديني والدعوي وأدواته وخطابه، وهو التمييز الذي لا ينبغي أن يفهم منه الفصل التام بين الدين والسياسة .
14-7. و يرتبط هذا التحديد لهوية حزبنا بتصورنا لمفهوم السياسة ولمفهوم الحزب السياسي في الدولة المعاصرة .
- فالحزب في الدولة المعاصرة: أداة لتنظيم المواطنين الذين يتقاسمون اختيارات سياسية وبرنامجية معينة.
- والوظيفة الأساسية للحزب السياسي هي تدبير الشأن العام سواء من خلال موقع التسيير أو من خلال موقع المعارضة.
- والعمل السياسي بطبيعته عمل تنافسي تداولي مما تقتضيه نسبيته واجتهاديته؛ وبالتالي فإن انطلاقنا من المرجعية الإسلامية لا يلغي تعدد الاجتهادات والاختيارات، ولا يصادر حق الآخرين في العمل السياسي، في ظل تعددية سياسية وتنافس بين البرامج السياسية المختلفة ضمن الإطار الدستوري للأمة ، وضمن دائرة التوافق على الثوابت. ويحدو الحزب أمل واسع في أن يصير الدفاع عن هوية الأمة وحماية ثوابتها أمرا مشتركا بين جميع المكونات السياسية للبلاد بالدرجة نفسها من القوة والحماسة. وتدل التجارب الناجحة والمستقرة للديمقراطية في العالم على أن ذلك لم يأت إلا بعد أن حسمت تلك البلدان في مسألة التوافقات التاريخية الكبرى ذات الصلة بقضايا المرجعية والمكونات الأساسية للهوية الوطنية.
- وطبيعة الدولة المعاصرة وخصائصها تستوجب التمييز بين مختلف السلطات، ومأسسة الأعمال والتخصص فيها بدل الصورة البسيطة الأولية التي كانت السلط فيها مجتمعة.
14-8. والتأكيد على أن مجال اشتغال الحزب هو المجال السياسي وتدبير الشأن العام لا يعني عدم اهتمام الحزب بقضايا المرجعية الإسلامية. فالتجارب السياسية والحزبية في أعرق الديمقراطيات في العالم، تؤكد عودة قضايا المرجعية الدينية وقضايا الهوية والقضايا الأخلاقية إلى ساحة العمل السياسي.
إضافة إلى ذلك فإن ارتباط السياسة بالمرجعية الإسلامية يجعلها منسجمة مع ثقافة المجتمع وقيمه، مما سيرفع درجة تفاعل المواطن وانخراطه في عملية الإصلاح السياسي، فضلا عن مد السياسة بقوة تخليقية تكون من عوامل تحصينها من الوصولية والانتهازية والارتزاق، والفساد في تدبير الشأن العام.
14-9. على أن الاشتغال على قضايا المرجعية والهوية وجب أن يتم ضمن آليات الاشتغال وأدوات الخطاب السياسي، أي باعتبارها من قضايا تدبير الشأن العام مما يقتضي التركيز على مقاربتها تشريعيا ورقابيا، وترجمتها إلى إجراءات عملية واقعية، في إطار برامج سياسية تطرح ديمقراطيا ضمن المؤسسات المنتخبة ذات الصلاحية.
14-10. ومن نتائج هذا الفهم أن الحزب تبنى مبكرا خطابا مدنيا يستدعي أساسا المصطلحات الحديثة، مثل الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والدولة المدنية ودولة الحق والقانون والمواطنة والتداول السلمي للسلطة، مع الإصرار على أن فهمه للمرجعية الإسلامية يجعلها تستوعب هذه المصطلحات الحديثة.
15 ـ الدين والدولة: تمييز لا فصل
15-1. يؤكد الحزب على أهمية مؤسسة إمارة المؤمنين من حيث إنها المشرف على تدبير الحقل الديني، ومن حيث أهمية هذه المؤسسة ودورها التاريخي والواقعي في المحافظة على الدين وتماسك النسيج المجتمعي، مما يتطلب دعم وتقوية المؤسسات التي تعمل تحت مسؤوليتها وتفعيل دورها الاجتماعي والتربوي ودورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوسيع وتعزيز استقلاليتها العلمية وضمان حريتها في الاضطلاع بذلك الواجب في إطار الضوابط الشرعية والقانونية، وإطلاق مبادرتها في مجال الفتوى العامة والخاصة للتوجيه والإرشاد، وذلك شرط لتعزيز مصداقيتها وتأكيد مرجعيتها في المجال الديني، وحمايتها من الحملات المغرضة الرامية إلى عزلها وتحجيمها وشل دورها.
15-2. إن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة، والدين والدولة ليست هي الفصل المطلق بين المجالين، وليست هي التماهي المطلق بينهما. فالدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية على الرغم من ذلك هي ممارسة بشرية نسبية قابلة للخطأ. ولا ينبغي إضفاء طابع القداسة عليها. ومن هنا لا مجال في هذا الفهم لأي صورة من صور نظرية الحكم الإلهي أو ما يعرف بالثيوقراطية.
15-3. وإذ نؤكد في حزب العدالة والتنمية على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأسمى للتشريع، فإننا نفهم الشريعة في معناها الواسع الذي يتضمن العقيدة والأخلاق والأحكام، وإقامتها هو مجال لعمل المجتمع بأسره ولا يقتصر على الدولة أو على سلطة القانون.
ونعتبر أن اختزال الشريعة في نظام العقوبات تشويه لها، فإقامة العدل شريعة، وإنصاف المرأة شريعة، وحفظ كرامة الإنسان شريعة، والصيام شريعة، وإقامة الصلاة شريعة، والمحافظة على البيئة شريعة، والشورى والديمقراطية شريعة، والدفاع عن الوطن ووحدته شريعة، وضمان حق كل مواطن في العيش الكريم شريعة.
15-4. ولا يفوتنا التأكيد على وجوب التمييز بين مجال الشريعة ومجال القانون. فإذا كانت الشريعة تضع المبادئ العامة وبعض الأحكام التفصيلية، فإن مجال القانون هو صياغة نصوص تشريعية أو تنظيمية. وهي العملية التي ينبغي أن تتولاها هيئة مخول لها حق التشريع في المجتمع بطريقة ديمقراطية.
أما تطبيق القانون وأحكامه فهو من صلاحيات السلطة التنفيذية وحدها، ولا يجوز للأفراد العاديين أن يباشروا بأنفسهم تطبيق القوانين على الآخرين ولا تنفيذ الأحكام القضائية.
15-5. ومبدأ الحرية العقدية والدينية واجتناب أي شكل من أشكال الإكراه في الدين، عقيدة وشريعة وأخلاقا، مبدأ مطرد. والمعول عليه فيها هو الإقناع والاقتناع والرضى، وليس سلطة الدولة أو إكراهات القانون.
غير أن الإقرار بمبدأ الحرية لا يتعارض مع الإقرار بمبدأ المسؤولية ومبدأ الملاءمة بين حق الفرد وحق الجماعة. فالحرية الفردية، وحرية الإبداع والتعبير، حريات مكفولة مالم تصطدم بحريات الآخرين، وبالحق في حماية الحياة الخاصة. ولا قيود على الحرية إلا القيود المنصوص عليها قانونيا، وفي الحالات الضرورية التي نصت عليها المواثيق الدولية مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي نص على أن الحرية “ينبغي أن لا تمس بحقوق الآخرين أو سمعتهم أو بالأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأدوات العامة، أو أن تتضمن ممارستها الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، أو أن يكون فيها تحريض على التمييز أو العداوة أو العنف”. ومثل ذلك، القيود التي تفرضها الضوابط الفنية في حالة الإبداع الفني، أو الضوابط المهنية في حالة حرية الصحافة، أو الضوابط التي يفرضها الضمير العام حين يتعلق الأمر بالمس بالأخلاق العامة. والمعول في هذا الأمر أساسا على ديناميكية المجتمع. أما القانون فلا يتدخل إلا حين المجاهرة بالمس بالآداب العامة أو الحياة الخاصة.
15-6. إن فهم حزب العدالة والتنمية للعلاقة بين الديني والسياسي وللعلاقة بين الدين والدولة وبين الإسلام والديمقراطية، يقوم على تركيب متناغم بينها، في انسجام بين مقتضيات المرجعية ومعطيات الكسب الإنساني والحضاري.
خامسا: النضال الديمقراطي مدخلنا إلى الإصلاح
بعد استحضار مجمل تحولات الوضع الدولي، والوقوف على أهم التطورات الدالة التي عرفها المغرب في السنوات القليلة الماضية، يتضح أن الرهان في المرحلة المقبلة ينبغي أن يكون على النضال الديمقراطي باعتباره مدخلا للإصلاح. ولئن كان هذا النضال حاضرا باستمرار في برامج الحزب، فإن التطورات المشار إليها أعلاه تزيد من تأكيد أولويته وراهنيته.
16 ـ لماذا أولوية النضال الديمقراطي ؟
16-1. إنه ينسجم مع التوجهات الأصيلة للحزب منذ نشأته، حيث إن تأسيسه قد جاء في سياق مناهضة الديكتاتورية والإقصاء والسعي للاستئثار بالساحة والاعتداء على الحريات الأساسية للمواطنين وفرض هيمنة الحزب الوحيد. ومن أجل ذلك دعا حزبنا إلى حرية تأسيس الأحزاب وحرية التعبير، وناضل من أجل تعددية سياسية حقيقية وناهض سنة 1965 حالة الاستثناء التي عطلت دور المؤسسة التمثيلية للشعب، ثم رفض بعد ذلك الانخراط في مسلسل الزيف والتزوير للإرادة الشعبية التي ميزت الاستحقاقات التي عرفتها البلاد في بداية تجربتها الديمقراطية الجديدة.
16-2. إن الاختيار الديمقراطي القائم على إقرار سيادة الشعب وعلى تعددية حزبية حقيقية وتداول فعلي على السلطة وتكافؤ الفرص بين الجميع، وإنهاء كل مظاهر الريع السياسي هو المدخل لإقرار العدالة وبناء التنمية. كما أنه مدخل إلى كل الأطروحات التي تقدم في الساحة السياسية عموما وداخل الحزب لمقاربة إشكاليات الإصلاح.
فالمدخل الديمقراطي هو مدخل أيضا لمقاومة الفساد، فالتقارير والدراسات المتخصصة التي تعنى بمكافحة الفساد تؤكد على عدة آليات ومداخل من أهمها توسيع رقعة الديمقراطية والمساءلة، مما يتطلب توسيع صلاحيات المجالس النيابية والأجهزة الرقابية ومنظمات المجتمع المدني وترسيخ آليات التداول على السلطة وإصلاح القضاء وتوفير ضمانات حصانة الصحافي ورجل الإعلام… تطويقا لاستحكام الفساد.
ولئن كانت ظاهرة الفساد موجودة في أعتى الديمقراطيات أيضا فإن الفرق يكمن في كون الأنظمة الديمقراطية تتوفر على آليات للمحاسبة والمراقبة وتسمح بتجديدها كلما تطورت آليات الفساد، ومن تم يتمكن المجتمع الديمقراطي من تقليل حجم الفساد ومخاطره.
16-3. إن تعزيز الديمقراطية هو أيضا السبيل إلى تعزيز المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع وتأكيد الصدور عنها في السياسات العمومية، وهو السبيل لدعم الهوية الوطنية في أصالتها وتعدديتها وتكامل مكوناتها. فالديمقراطية في الجوهر إعلان لسيادة الإرادة الشعبية، كما أنها في السياق المغربي ـ حيث المجتمع المغربي مجتمع متمسك بمرجعيته ومعتز بهويته ومتنوع في تركيبته ـ لا يمكن أن تنتج سوى سياسات عمومية تراعي ذلك كله، ولا يتصور غير ذلك إلا إذا تم التمكين لديكتاتورية أقلية بطرق غير ديمقراطية، توظف مواقع نفوذها لفرض مرجعيات وهويات أخرى ونظام أخلاقي غريب على المجتمع المغربي.
16-4. وعلى الرغم من أن على الحزب أن يرفع جاهزيته لتدبير الشأن العام، ويقدم نماذج حية في الحالات أو المجالات التي يتولى فيها ذلك التدبير، وجب التنبيه إلى أن الحالات التي نجحت فيها بعض الأحزاب ذات الأصول الإسلامية، إنما كانت بفضل توفر حد أدنى من شروط الممارسة الديمقراطية. وتثبت تجربة التناوب التوافقي التي راهنت فيها بعض الأحزاب على المشاركة في الحكم أنه في ظل محدودية الصلاحيات وازدواجية السلطة والغموض على مستوى المسؤولية السياسية عن التدبير، فضلا عن بعض العوامل الذاتية في الجهات المشاركة…تثبت التجربة أن أطروحة الإصلاح من خلال المشاركة في التدبير تبقى محدودة النتائج.
16-5. إن حزبنا ـ وهو يمركز أطروحته السياسية على مدخل النضال الديمقراطي ـ لا ينطلق من أطروحة سياسية مثالية مجردة، أي تلك الأطروحة التي انتهت بعدد من القوى إلى العزلة والهامشية في انتظار توفر الشروط المثالية للمشاركة. فمن المبادئ الموجهة لرؤيتنا السياسية مبدأ التدرج والتراكم الذي هو سنة تحكم الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية. ومراعاة هذا القانون في مجال الإصلاح السياسي والاجتماعي أولى، حيث تتميز الظواهر الاجتماعية والثقافية بطابعها المعقد والتراكمي.
لكن تأكيدنا على مبدأ التراكم والتدرج لا يتعارض مع وضوح الأهداف فيما يتعلق بإقامة الديمقراطية باعتبارها مدخلا للعدالة والتنمية الشاملة. فمراعاة هذا المبدأ ـ إذ تنأى بحزبنا عن النزعات المغامرة التي تعصف بالمكتسبات وتعجز عن تحقيق أدنى الإنجازات، كما تنأى به عن الأطروحات المثالية الانتظارية التي تنتظر توفر الشروط الكاملة للانخراط في العملية السياسية وفي تدبير الشأن العام ـ فإنها تنأى به كذلك عن التصالح مع واقع التخلف والفساد والاستبداد.
16-6. ونقصد بالنضال الديمقراطي العمل من أجل إقرار إصلاحات سياسية تعزز المسؤولية السياسية للحكومة وتعزز صلاحيات ومصداقية المؤسسات المنتخبة وتوفر الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتعيد الاعتبار للمشاركة السياسية، وتعزز جودة نظام الحكامة.
أما عن مضمون الإصلاحات السياسية وأولوياتها في المرحلة المقبلة فيتضمن أساسا ما يلي:
أ ـ إقرار إصلاحات دستورية متوافق عليها باعتبارها إحدى المداخل الأساس للإصلاح السياسي، وتمكن في نفس الوقت من تعزيز المسار الديمقراطي وتحصنه من كافة أنواع التردد أو الانتكاس. وتشمل هذه الإصلاحات أساسا ما يلي:
- تقوية سلطات الحكومة وتعزيز مكانة وصلاحيات الوزير الأول .
- توسيع وتقوية الاختصاصات الرقابية والتشريعية للبرلمان ورفع فعاليته ومراجعة اختصاصات الغرفة الثانية أو إلغاؤها.
- تقوية الضمانات الدستورية لاستقلال القضاء مع تقوية الجهاز القضائي وتعميق نزاهته ورفع فاعلية العمل القضائي.
- توسيع الجهوية والتنظيم اللامركزي باعتبار ذلك أحد مداخل دمقرطة الحياة السياسية والاقتصادية وتوسيع دائرة مشاركة المواطنين في تدبير الشأن العام .
ب ـ إصلاح النظام الانتخابي بما يمكن من فرز خريطة سياسة واضحة قائمة على أغلبيات منسجمة وحكومات أو مجالس محلية قوية، وتعزيز الضمانات القانونية لنزاهة الانتخابات مرورا بالتقطيع الانتخابي الذي ينبغي أن يقوم على أسس موضوعية لا على هواجس التحكم في الخريطة الانتخابية ويصدر عن المؤسسة التشريعية، وبالإشراف القضائي على تنظيم الانتخابات.
ج ـ دمقرطة الشأن المحلي باعتباره من أهم مداخل تعزيز البناء الديمقراطي.
د- حماية الحريات العامة والأساسية ووقف الانتهاكات والتراجعات في مجال حقوق الإنسان وتعزيز دولة الحق والقانون وتقوية مسار النهوض بحقوق الإنسان والحريات العامة.
هـ ـ دمقرطة الإعلام العمومي وتعزيز حرية الصحافة والحق في المعلومة.
و- إصلاح وتحديث الإدارة العمومية وتعميق الشفافية في تدبير الشأن العام.
17 ـ في الخط السياسي للحزب
17-1. وإعطاء الأولوية للنضال الديمقراطي يقتضي خطا سياسيا يستجيب لمتطلباته التأطيرية والنضالية، وهو ما يقتضي عملا على مستويين:
أ ـ مواصلة خيار المشاركة المؤسساتية مع ما يتطلبه ذلك من نضال لتحسين شروط المشاركة سواء تعلق الأمر بالضمانات القانونية والإدارية لضمان نزاهة الاستحقاقات الانتخابية وإفرازها لمؤسسات مسؤولة وذات مصداقية وتعزيز صلاحيات هذه المؤسسات وطرق تدبيرها. لكننا لا ننتظر نضج الشروط المثالية والكاملة من أجل تلك المشاركة، ذلك أن النضال من داخل المؤسسات نفسها هو مدخل من مداخل تحسين المشاركة.
ومن مقتضيات ذلك، العمل على رفع مستوى جاهزية الحزب لتدبير الشأن العام سواء من موقع المعارضة أو من موقع التسيير. وفي الحالتين كلتيهما وجب أن يرفع الحزب أداءه من حيث الجودة والفعالية ويقدم نماذج قوية بما يعنيه ذلك من جودة في التسيير إذا كان في موقع التسيير، ومن قوة في المعارضة ـ نقدا واقتراحا ـ إذا كان في موقع المعارضة.
والمعارضة القوية لا تقف فقط عند قوة الخطاب، فعلى أهمية هذا الجانب في إيصال رسائلنا الإصلاحية، إلا أن القوة الفعلية للمعارضة تكمن في دقة المعطيات وتماسك التحليل وقوة الحجج والبراهين فضلا عن القوة الاقتراحية.
ب ـ تعزيز عمل القرب بالوفاء لمنهج التواصل اليومي مع المواطنين، والنضال الميداني ورفع الجاهزية في ذلك مع ما يتطلبه من انفتاح وإبداع أشكال متعددة لمزيد من إشراك المواطنين في الشأن الحزبي والشأن السياسي بشكل أعم، باعتباره من شروط مشاركة أوسع في بناء الديمقراطية من جهة، وتوسيع المشاركة الشعبية والمساهمة في تجاوز معضلة العزوف من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك الحاجة لبناء ثقافة نضالية ميدانية لدى قواعد الحزب وتنظيماته المجالية والتكوين على آليات النضال اليومي الميداني والاهتمام بالمطالب الاجتماعية الملحة للمواطنين وتعزيز التعاون مع الفاعلين الاجتماعيين.
ج ـ تعزيز التواصل مع المجتمع المدني: اعتبارا لأهمية المجتمع المدني في تطوير النظام الديمقراطي وفي تعبئة المواطنين للإسهام في تدبير الشأن العام، يتعين على حزبنا أن يتواصل بشكل أفضل مع جمعيات المجتمع المدني ومؤسساته ويعمل على دعم هذا المجال الحيوي. ولقد عرفت العقود الأخيرة تزايدا ملحوظا في دور مؤسسات المجتمع المدني في مجال تدبير كثير من شؤون المجتمع الاقتصادية والتنموية، في الوقت الذي تم فيه تجاوز التصور التقليدي للدولة الذي يجعلها مهيمنة على مختلف مناشط المجتمع. فأصبح لزاما عليه أن يأخذ زمام المبادرة في تدبير كثير من شؤونه وقضاياه.
فتعزيز دور المجتمع المدني هو إذن تكريس لثقافة المشاركة وترسيخ لثقافة المسؤولية، وتوسيع لدائرة الديمقراطية التشاركية، على أساس أن النضال الديمقراطي ليس مطلبا سياسيا فحسب، بل هو كفاح يومي ميداني وثقافة ينبغي أن تترسخ في جميع مؤسسات المجتمع انطلاقا من الأسرة، فالمدرسة والجمعية والنادي إلى غير ذلك من الفضاءات والمؤسسات الاجتماعية.
18 ـ في التموقع السياسي لحزب العدالة والتنمية
تطرح قضية التموقع السياسي لحزب العدالة والتنمية عدة التباسات سواء على المستوى الداخلي أو لدى بعض المراقبين الخارجيين. ويرتبط هذا الالتباس بعدة عوامل موضوعية وأخرى ذاتية مما يستلزم التوضيح والتدقيق.
18-1. إن الجواب على قضية التموقع السياسي للحزب يطرح عدة صعوبات بعضها مرتبط بالمعيار الذي ينبغي اعتماده في تحديد هذا التموقع: هل يتم تحديده من منطلق المعيار الكلاسيكي المعروف الذي يميز في الأحزاب السياسية بين يمين ووسط ويسار، ثم إلى يمين وسط أو يسار جذري أو يمين متطرف، أو من معيار الحداثة والليبرالية أم المحافظة. فالعلوم السياسية اليوم ـ فضلا عن الملاحظة البسيطة ـ تكشف أن هذه المعايير الكلاسيكية لم تعد تمكن من رسم حدود صلبة أو تعكس حقيقة التوجهات المذهبية والسياسية، ذلك أن التطورات السياسية والإيديولوجية المتسارعة قد جعلت تلك الحدود متحركة، وأصبحنا نجد تركيبات جديدة يتحدث فيها عن الليبرالية الاجتماعية أو الاشتراكية الديمقراطية أو الديمقراطية الاجتماعية وغير ذلك. كما أن تطور التجربة السياسية الغربية نفسها قد أفرز دخول عامل الدين إلى جانب العوامل السياسية الاجتماعية بوصفه أحد العوامل المحددة للتصنيفات والتموقعات السياسية حيث الحديث عن الأحزاب المسيحية الديمقراطية مثلا وعن اليمين المسيحي المعتدل أو المتشدد، وعن الحركات السياسية اليسارية التي تستلهم الدين في إطار ما يسمى بلاهوت التحرير.
18-2 . تتخذ مسألة التصنيف والتموقع في المغرب طابعا أكثر تعقيدا حيث لم يعرف التاريخ السياسي المعاصر اصطفافات حقيقية على قاعدة الاختيارات المذهبية أو الاقتصادية أو المشاريع المجتمعية. وإذا استثنينا بروز الحركات اليسارية في نهاية الستينات وبداية السبعينات، والتي لم تعمر تجربتها السياسية والإيديولوجية طويلا وانتهى بها المطاف عموما للعدول عن توجهاتها الراديكالية لتلتحق بالخط العام للأحزاب الإصلاحية التقليدية ، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن تموقعات سياسية واجتماعية واضحة لمختلف مكونات الطيف السياسي.
كما أن انخراط أحزاب المعارضة السابقة في الحكم انطلاقا من تجربة التناوب التوافقي وتبنيها للاختيارات الليبرالية في المجال الاقتصادي وتبنيها لبرامج مشابهة للأحزاب التي كانت تنعتها بالأحزاب الإدارية، كل ذلك يزيد من صعوبة تحديد الخريطة السياسية وتموقعات الأحزاب بمعايير التصنيف الكلاسيكية.
18-3 . تقترح هذه الأطروحة اعتماد معيار سياسي وظيفي للتموقع ينطلق أساسا من اعتبار تصورنا لأولوية الإصلاح في المرحلة القادمة ومدخله الأساس أي مدخل النضال الديمقراطي. ومن مستلزمات ذلك التعاون مع الفاعلين السياسيين الذين وضعوا ضمن أولوياتهم النضال من أجل إقرار إصلاحات سياسية حقيقية تعيد الاعتبار للحياة السياسية وللمؤسسات المنتخبة ولمشاركة المواطن.
وإذا كان حزبنا ـ بالنظر إلى خطابه وتكوين قياداته ـ هو أقرب ما يكون للتعبير عن الطبقة الوسطى، فإنه بالنظر إلى مذهبيته وخلفيته الأخلاقية والأصول الاجتماعية لقياداته، مؤهل كي يستمع لهموم المستضعفين من الفئات الدنيا ويبقى قريبا منها من خلال سياسة القرب ومن خلال منظماته الموازية والشريكة.
وبالنظر أيضا إلى ما يفترض فيه من مسؤولية وطنية فإن انحيازه الاجتماعي الواضح للفئات الضعيفة والمتوسطة لا يعني أن ينزلق إلى الشعبوية، بل هو مع توفير المناخ الملائم لازدهار مقاولة مواطنة، ورأسمال مواطن يكون ثروته بالطرق المشروعة، ويكون قاطرة للاستثمار الوطني، ويسهم في إنتاج الثروة ورفع منسوب التنمية وفي خلق مناصب الشغل، في إطار من الشفافية واحترام القانون وأداء الالتزامات. والأساس النظري لهذا الانحياز أن تقوية التماسك الاجتماعي أحد شروط الاستقرار الاجتماعي. وهو الاستقرار المرتبط بإقرار معادلة تقيم التوازن بين تنمية الطبقة المتوسطة وتوسيع قاعدتها حتى تكون هي الفئة التي تشكل أغلبية المجتمع، وبين حماية المستضعفين والعناية بالفقراء من خلال مختلف آليات التضامن مع العناية بالإنتاج ورعاية مصالح المقاولة المسؤولة اجتماعيا.
18-4. وبما أن المرجعية الإسلامية هي مرجعية للدولة ومرجعية مشتركة للمجتمع المغربي، وبالنظر إلى أنها تتجه لكي تكون موضع توافق وقبول أكبر، وموضوعا للتنافس في دعمها، وتسهيلا لمزيد من التوافق الذي سيتعزز بالإحساس بأنها لم تصبح حكرا على حزب واحد أو بضعة أحزاب، نتصور أنه وجب في بناء التموقع السياسي والاجتماعي للحزب التركيز أكثر على معيار النضال الديمقراطي. ومن شأن تموقع مثل هذا أن ينتج تقاطعات بين عدة فاعلين في الساحة، فضلا عن أن هذا التموقع سيكون من نتائجه دعم الاتجاه التوافقي حول قضايا المرجعية والهوية ومن ثم سيثمر تعزيزا أكبر لهما في البرامج والاختيارات السياسية لدى الجميع.
وحيث إن تمثيلية الأحزاب على المستوى المحلي لا تعبر في الغالب عن انتماءات سياسية أو إيديولوجية حقيقية، وحيث إن الشأن المحلي هو شأن تدبير يومي أكثر مما هو شأن سياسي، فإن التعاون وجب أن يتأسس على اعتبارات عملية منها: درجة من النزاهة والمصداقية والاستقامة، وتشكيل تحالفات تنتج أغلبيات تجلب أكبر قدر من المصالح وتدفع أكبر قدر ممكن من المفاسد، وتسهم في تحسين حكامة الشأن المحلي والاستجابة للحاجيات اليومية للمواطنين.
19 ـ في تأهيل الأداة التنظيمية الحزبية: حزب عصري من أجل النضال الديمقراطي
يكشف تحليل الواقع التنظيمي للحزب عن عدة اختلالات يمكن تحديد أعراضها الظاهرية فيما يلي:
19-1. نقص في وظيفة الإنتاج وتوليد الأفكار السياسية وفي التحليل والنقاش السياسي، واستغراق هيئات الحزب في قضايا التدبير اليومي، مما ترتب عنه ضعف في الثقافة السياسية المشتركة وأعطى الانطباع بوجود حالة تأرجح بين تصورات عامة مختلفة. فعلى الرغم من وجود إطار مذهبي متقدم تعكسه وثيقة البرنامج العام للحزب، والجهد الذي بذل أثناء وضع المخطط الاستراتيجي لصياغة رؤية ورسالة الحزب، إلا أن ذلك لم يترجم عبر أطروحة ناظمة تقدم أدوات نظرية وعملية تمكن من بناء خط سياسي ناظم ومعبئ يؤطر حركة الحزب ومبادرات هيئاته المركزية والمجالية.
19-2 .سهولة في التأثر بالثقافات السياسية السائدة وبما تشيعه بعض وسائل الإعلام، وضعف القدرة على قراءة الواقع السياسي وتقييم مواقف الحزب من خلال المفاهيم السياسية للحزب وأدوات تحليله الخاصة.
19-3. عدم كفاية النفس النضالي وضعف الوعي السياسي لدى العديد من الأعضاء ومن ثم ضعف المبادرة السياسية على المستوى المحلي والتعويل أساسا على المبادرات السياسية الوطنية.
19-4. قصور الأداة التنظيمية على مستوى أدائها خلال بعض المحطات الحاسمة كما هو الشأن في الاستحقاقات الانتخابية، وبعض الأنشطة العامة للحزب. ويتحمل ذلك القصور الذاتي نصيبا من المسؤولية في النتائج التي حصل عليها الحزب في الاستحقاقات التشريعية الأخيرة ، وقصور على مختلف المستويات التنظيمية في ترجمة القوة السياسية والتمثيلية والجماهيرية للحزب، إذ يظل البناء التنظيمي والمؤسساتي للحزب قاصرا في مواكبة إشعاعه السياسي. ومن المظاهر الدالة على ذلك نذكر على سبيل المثال:
- ضعف في الانتشار الأفقي كميا وخاصة في العالم القروي.
- ضعف الانتشار الفئوي وضعف انفتاح الحزب على عضوية نوعية وضعف فعالية بنيات الاستقبال القائمة.
- إن هذه المظاهر من القصور – التي لا تنفي وجود عناصر للقوة ليست هي موضوع تحليلنا في هذا السياق – تقتضي تأهيل الذات الحزبية ورفع جاهزيتها كي تكون قادرة على الوفاء بمتطلبات النضال الديمقراطي تنظميا ونضاليا.
20. تستوجب إستراتيجية النضال الديمقراطي بناء تنظيم حزبي عصري ديمقراطي. ومواصفات الحزب العصري الديمقراطي متعددة منها : مواصفات وظيفية، ومواصفات هيكلية تنظيمية، ومواصفات نضالية:
20-1.من أهم مواصفات الحزب العصري قدرته على التأطير السياسي. إن مصدر قوة الحزب السياسي المعاصر تتمثل في قدرته على التأطير السياسي أي توسيع قاعدته الناخبة وقاعدته من المتعاطفين الذين يثقون في خطه السياسي وفي برامجه الإصلاحية، ويكونون مستعدين لتفويضه ـ من خلال التصويت على مرشحيه ـ تدبير الشأن العام.
20-2. تعتبر وظيفة التأطير السياسي من أهم الوظائف التي خولها القانون للأحزاب السياسية. وهي التي تميز الحزب السياسي الحديث عن المقاولات الانتخابية. وتقوم هذه الوظيفة على تعزيز الديمقراطية الداخلية وتطويرها باستمرار، والتأطير السياسي المتواصل للمناضلين بما يجعل من الحزب مدرسة للتكوين والتثقيف السياسي المستمرين، وبما يمكن من دعم الثقافة السياسية المشتركة التي تؤهل الجميع للتقارب في النظرة للواقع وتحليل مفرداته، وتقرب المسافة بين القيادة والقاعدة، وتهيئ الجميع لفهم وتفهم مختلف القرارات السياسية، ومن ثم تمنع من اختراق منظورات أو ثقافات سياسية أخرى للذات الحزبية.
20-3. إن اضطلاع الحزب بوظيفته في التأطير السياسي رهين بتفعيل وظيفة الإنتاج السياسي أي الإنتاج المستمر للمفاهيم وأدوات التحليل السليم للواقع السياسي، ومن مداخل ذلك تعزيز النقاش السياسي داخل الحزب وتوسيع فضاءاته ومأسسة الحوار الداخلي الذي أبان عن نتائج واعدة رغم حداثة اعتماده كآلية ديمقراطية وفضاء للنقاش وبلورة ثقافة سياسية مشتركة.
20- 4. يقتضي تفعيل وظيفة التأطير السياسي توسيع العضوية داخل الحزب والاهتمام أكثر بالعضوية النوعية، وتفعيل الهيئات الوظيفية في تكامل مع الهيئات التنظيمية، وتوسيع فضاءات الاستقبال. كما يتطلب توسيع التأطير الخارجي كما وكيفا وتعميم الثقافة السياسية للحزب بهدف توسيع المجال الحيوي الذي يتحرك فيه وقاعدته الناخبة التي تجد نفسها في اختياراته وبرامجه، والإسهام في إعادة ثقة المواطن بالعمل السياسي.
20-5. لقد كشفت تجربة الحزب على أن سقوف وفضاءات الاستقبال واطئة نسبيا، مما يقتضي العمل على تجاوز العوائق النفسية الذاتية والعوائق الهيكلية والتنظيمية التي تحول دون جرأة أكبر في التوسع العضوي والانتشار التنظيمي. وفي هذا قد تكون التنظيمات المهنية واللجان الوظيفية والموضوعاتية والهيئات الموازية مدخلا من مداخل العضوية النوعية.
20- 6. تعتبر وظيفة التواصل حصيلة للوظائف كلها وتثمينا لها. فالإنتاج السياسي يبقى دون أهمية ما لم يكن موضوعا للتواصل مع الطرف الأساسي في العملية السياسية أي المواطن ومختلف المعنيين بالرسائل السياسية التي ينتجها الحزب.
غير أن وظيفة التواصل السياسي ليست عملية وحيدة الاتجاه، بل هي عملية تفاعلية مثمرة تقوم على الاستماع المتواصل للمواطنين وقضاياهم من حيث إنهم معنيون باستمرار بالقرار السياسي.
وتحتاج هذه العملية إلى جهد كبير على مستوى الحزب؛ سواء على مستوى العناية بإنتاج الرسائل السياسية أو على مستوى الخطاب أو على مستوى قنوات التواصل، على اعتبار أن الفاعل قد لا يخفق في الإنتاج السياسي بل قد يخفق في إبلاغه من خلال القنوات المناسبة.
20-7. غير أن قوة التواصل السياسي الأساسية وأهم عناصره لدى حزب العدالة والتنمية تتمثل في سياسة القرب والتواصل اليومي والميداني. إن التركيز على وظيفة التواصل في بعدها الميداني تنسجم بقوة مع خيار النضال الديمقراطي مدخل للإصلاح، على اعتبار أن ذلك شرط من شروط مشاركة أوسع في العملية الديمقراطية وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية والإسهام في تجاوز معضلة العزوف. وفي هذا الصدد ينبغي تعزيز وتوسيع المبادرات التواصلية لمختلف الأجهزة المركزية والمجالية للحزب، وأن تتكامل جميع تلك الأعمال ضمن سياسية تواصلية مندمجة.
20-8. غير أن الوظائف السابقة لن تؤتي ثمارها بدون النهوض بوظيفة التدبير السياسي. وتتمثل هذه الوظيفة في الفعل السياسي في الواقع والتحرك من خلال الخط السياسي المرحلي وإعداد الجاهزية والفعالية اللازمة لذلك. كما تتأتى عمليا من خلال المشاركة والوجود في المؤسسات وتدبير الشأن الجماعي والإسهام اليومي في تعزيز الديمقراطية المحلية وتخليق الحياة الجماعية والتصدي لمختلف مظاهر الفساد.
والفعالية على مستوى التدبير السياسي هي نتيجة للفعالية في الوظائف الأخرى، ولروح المبادرة الفردية والجماعية، ولوظيفة التأطير الخارجي والانفتاح في اتجاه إشراك المواطنين في تدبير الشأن الحزبي بطريقة غير مباشرة من خلال إشراكهم في مناقشة توجهاته وبرامجه، على اعتبار أن ربح رهان النضال الديمقراطي شرطه الأساس مشاركة سياسية أوسع في مناقشة تدبير الشأن العام.
خاتمة
تقوم أطروحة المؤتمر السادس على مقاربة تكاملية تؤكد على أولوية النضال من أجل تعزيز البناء الديمقراطي. فالإصلاح الديمقراطي أهم مدخل لإصلاح نظام الحكامة ومقاومة الفساد وتعزيز المرجعية الإسلامية ودعم الهوية، مع التأكيد على مواصلة خط المشاركة وتوسيع نطاقه وتحسين شروطه ورفع فاعليته، والتعاون مع القوى السياسية التي تتقاطع مع الحزب في هذا الاختيار، و تأهيل الذات التنظيمية في اتجاه بناء حزب عصري ديمقراطي قادر على الوفاء بمتطلباته.
والحزب بمختلف هيئاته مدعو لاتخاذ مبادرات سياسية ووضع برامج عملية لتنزيل مضامين هذه الأطروحة على أرض الواقع.